لا جدال في أن العرب جميعا على أعتاب مرحلة تاريخية جديدة، عبر عنها بجلاء الإعصار الذي عم عددا من البلدان العربية، منذ مطالع 2011، وأحدث تحولات سياسية رئيسة في تونس ومصر وليبيا واليمن. ولا تزال تفاعلاته مستمرة بقوة حتى يومنا هذا بسوريا.

لقد غيب في الحراك الملحمي، القراءة الهادئة والمتعمقة لما جرى ويجري، وتأثيرات هذا الحراك على مستقبل المنطقة. جاء هذا الإعصار عفويا ومفاجئا لمعظم المثقفين والمفكرين، وعموم الناس. وهو أمر مناف لما ألفته التحولات الإنسانية التاريخية الكبرى. فالمعتاد هو أن يمر التحول قبل حدوثه بمراحل، بمرحلة تبشير وإعداد، وبرامج سياسية، تلقي بظلالها كثيفة على مختلف الأنشطة الفلسفية والفكرية والأدبية، وجميع أنواع الفنون، بما في ذلك الرواية والشعر والموسيقى. ولم تكن مرحلة الرومانسية أو السريالية في الأدب الأوروبي، أو الواقعية، ومسرح اللامعقول والفن التجريدي والواقعية الجديدة، سوى إرهاصات ومؤشرات على أن أوروبا قادمة على تحولات كبرى، تنقل مجتمعاتها من النظام البطركي إلى القوانين الوضعية والعلاقات التعاقدية.

في الواقع العربي، نحن أمام حراك، شعاره الرئيس هدم رموز الأنظمة التي جثمت على صدر شعوبها لأكثر من سبعة عقود، هي عمر الدولة الوطنية العربية، في مرحلة ما بعد الاستقلال عن الهيمنة الكولونيالية. تسقط الرموز وتبقى الأنظمة على حالها. وتتولى عناصر ناكسة مسؤولية القيادة في المرحلة الجديدة، ليغيب، مع غياب البرامج السياسية والفكرية لهذا الحراك، الطابع الحداثوي في هذه التحولات.

كيف نقرأ هذا الخواء؟ وبماذا نفسر الغياب شبه المطلق للبرامج السياسية والاجتماعية في هذه التحولات؟ وهل كان ذلك صدفة وجزءا من مكر التاريخ؟ أم أنه النتيجة المحتمة لغياب التراكم، الذي يفترض فيه أن يخلق التفاعل الخلاق، وتبرز من خلاله طريحة المستقبل.

هنا تواجهنا حقيقة مرة، هي أن الأفكار لا تنتج من فراغ، بل هي في المبتدأ والخبر استجابة لواقع موضوعي، يمنحها المشروعية وصفة التقدم. وللأسف فإن الأمة مرت بمرحلة تنوير منذ النصف الثاني للقرن التاسع عشر. وكانت المعضلة أن عصر التنوير كان صدى واهنا لتحولات دراماتيكية في المجتمعات الأوروبية. نقلنا عنها أفكار الحرية والعدل والإخاء والمساواة، وعبر عنها بصدق الشيخ محمد عبده حين زار باريس بقوله وجدت في مصر مسلمين ولم أجد إسلاما، أما في باريس فإنني للأسف وجدت إسلاما ولم أجد مسلمين. وهو في ذلك يعبر عن المبادئ الجوهرية لرسالة الإسلام الخالدة. لكن هذه الأفكار لم تجر تبيئتها وتوطينها في الواقع العربي، فكانت النتيجة نكسات متتالية مروعة شهدتها مراكز النهضة، وعبر عنها بوضوح فشل ثورة 1919م في مصر، واتساع الهجرة اليهودية إلى فلسطين، وزرع الكيان الصهيوني، منذ نهاية الأربعينات من القرن المنصرم في القلب من الأرض العربية

وقفت مشاريع التنوير موقفا ضبابيا ومرتبكا من الدولة الوطنية، ولم تقدم جوابا شافيا لرؤيتها لمفهوم الأمة، حيث اقتصرت معظم أدبياتها على عنصر واحد هو اللغة، وغاب الحديث عن الجغرافيا والمواطنة والدولة المدنية. وحين جرى الحديث عن التاريخ والثقافة المشتركة كعناصر أخرى من مكونات الأمة، كانت الإحالة واضحة إلى الناطقين بالعربية فقط، وليس للناس الذين يقيمون على جغرافيا تمتد من البحر في الخليج العربي، إلى البحر المغاربي على ساحل المحيط.

لقد ظلت حركة التنوير العربي، رهينة لتجاذبات اللحظة التاريخية وتوتراتها، في المرحلة التي شهدت مقاومة الوجود العثماني. وفي المرحلة التي أعقبتها، وقعت رهينة أيضا لتوترات لحظة أخرى في التاريخ العربي. تمثلت هذه اللحظة التاريخية، في مرحلة الصعود الكاسح لحركة التحرر الوطني في المنطقة العربية وفي العالم الثالث بأسره، من جهة. ومن جهة أخرى، في مضي الصهاينة حثيثاً، في تنفيذ مشروعهم الاستيطاني وتصاعد حركة الهجرة اليهودية لفلسطين.

أدى انشغال حركة التنوير العربي بهذين الحدثين، إلى أن تنهمك في تقديم أجوبة سياسية وتحريضية تجاه مسألة الاستقلال، والتصدي للمشروع الصهيوني. وكان عليها في اللحظة ذاتها، أن تتصدى للتنظير الستاليني، في ما يتعلق بمسألة مناهضة الاستعمار، والموقف من تشكيل وطن قومي لليهود في فلسطين، وموقف بعض المثقفين العرب المتماهي مع ذلك التنظير. وكان ذلك التنظير متأثراً إلى حد كبير، بتحالف الاتحاد السوفييتي مع الولايات المتحدة الأمريكية وبريطانيا وفرنسا، ضد النازية ودول المحور خلال السنوات الأخيرة من الحرب العالمية الثانية.

قد انطلق هذا التنظير من تصور أرثوذكسي، يرى في التطبيق الرأسمالي خطوة متقدمة على طريق الارتقاء بالحضارة الإنسانية، وأنه مرحلة ضرورية وحتمية للتحول نحو المجتمع الصناعي. وعلى هذا الأساس، التقت هذه القراءة مع التصور الرأسمالي في أن الاستعمار يسهم في نقل العالم الثالث إلى عالم الصناعة والتطور. وضعت هذه الرؤية الأساس الأيديولوجي لستالين، لعدم الاعتراض على الاحتلالات الغربية للبلدان العربية، والاعتراف بشرعية الوجود الصهيوني في فلسطين. فذلك من وجهة نظره الأرثوذكسية، سيختزل مرحلة تاريخية، ويعجل في خلق مجتمع صناعي متطور، تنبثق عنه طبقات تهيئ الظروف لخلق التحولات الكبرى في المجتمعات العربية.

وهكذا وبدلا من تقديم إجابات شافية وواضحة على مستقبل المجتمعات العربية، انشغل التنويريون العرب بالتصدي لهذه التنظيرات، ومواجهة الفكرة التي وجدت في الاحتلال الفرنسي لسوريا ولبنان والجزائر عاملاً مسرعاً لنقل هذه البلدان للدولة المدنية. وعملوا على دحض هذا الموقف الأيديولوجي، مؤكدين على أن الاحتلال الأجنبي، لا يهتم مطلقاً بتنمية بلدان العالم الثالث. فجل ما يهمه هو نهب المواد الخام، خاصة النفط والفحم والحديد، والمواد الأخرى التي غالباً ما يكون التنافس عليها حاداً، في البلدان الصناعية المتقدمة. وأن المحتل يعمل على حسم الصراع الاقتصادي العالمي لمصلحته. وفوق ذلك كله، فإن هذه الرؤية تقوم على أساس غير إنساني وغير عادل.

خلاصة القول، إن انشغال التنويرين العرب بتجاذبات اللحظة قد غيب التراكم الفكري التاريخي، الذي هو شرط أي تحول في الأفكار. وحين جاء الربيع العربي، بعد هذه العقود الطويلة لم يجد أرضية فكرية تحتويه وتقوده. ويبقى الحديث بحاجة إلى مزيد من التحليل والتأصيل.