لعل أبرز ما افتقدته بعد عودتي للاستقرار في الوطن، بعد مدة غير قصيرة في المملكة المتحدة، كان الجو الثقافي الثري في بريطانيا بكل ما يشمله ذلك من مكتبات ومتاحف ومسارح وسينمات ومعارض ثقافية وفنية دائمة ومؤقتة، وكذلك الندوات والمحاضرات والمؤتمرات وحلقات النقاش وغيرها. وأنا لا أتحدث هنا فقط عن تلك المتعلقة بتخصصي، وإنما عن تلك ذات الصلة بالثقافة بشكل عام والتي تشمل الدين والسياسة والفنون والعلوم الإنسانية المختلفة. كنت أحرص أثناء دراستي على حضور مثل هذه الندوات الفكرية في الحرم الجامعي نفسه. وبعد انتقالي لمدينة لندن للعمل وجدت الكثير من هذه المناسبات متاحة في عاصمة الضباب، سواء داخل الأسوار الجامعية أو خارجها.

وحين انتقلت إلى واشنطن على الضفة الأخرى من الأطلسي، وجدت في عاصمة الولايات المتحدة الأميركية الكثير من هذه الندوات، حيث يوجد عدد من المنظمات التي تعرف في أميركا "بالثنك تانكس" (ترجمتها الحرفية أحواض/خزنات التفكير)، وهي منظمات بحثية غير ربحية متخصصة في جوانب مختلفة مثل السياسة أو التقنية أو الشؤون العسكرية أو الطاقة وغيرها، وهدفها دعم صناع القرار عبر المعرفة المترتبة على الأبحاث والدراسات. ولأننا في العام التالي لمفاجآت الربيع العربي، فيكاد يكون ثلث هذه الندوات عن دول الثورة، وعن إيران والمواجهة المرتقبة معها، وعن السنة والشيعة وعن صعود التيار الإسلامي في مصر وتونس وليبيا والمغرب، وعن دور المرأة العربية والمسلمة في الثورات وفي معارك الإصلاح السياسي، وأيضاً عن الصراع العربي -الإسرائيلي. وقد يكون هناك في اليوم الواحد أكثر من محاضرة شيقة بحيث لا يتاح حضورها كلها، لكن لحسن الحظ فالكثير من هذه الندوات تبث عبر الشبكة حية على الهواء بحيث يمكن متابعتها من المنزل أو الاستماع لتسجيلها لاحقاً.

السؤال الذي كان يلح عليّ في كل مرة أحضر فيها محاضرات كهذه، فاكتشف أنني كثيراً ما أكون العربية الوحيدة في مدن تعج بالآلاف من أبناء العرب والمسلمين، بمن فيهم طلبة العلوم السياسية والتاريخية والجغرافية والعلوم الاجتماعية وغيرها، وفيها هذا الكم الهائل من البعثات الدبلوماسية العربية، هو: أين القوم؟

في كل بعثة دبلوماسية هناك ملحقيات إعلامية وثقافية، كان يفترض بها أن تحرص على المشاركة في مثل هذه الندوات التي تتحدث عن هذا القطر تحديداً أو عن المنطقة ولو بالحضور للاستماع ومعرفة الصورة المتكونة لدى الآخرين عنا. وإذا كان يمكن تفهم انشغال الملحقيات الثقافية حالياً بالطلبة ومشكلاتهم وجامعاتهم فإنه يفترض أن تحاول الملحقيات الإعلامية سد هذا النقص، والأمر لا يحتاج انتظار دعوة رسمية من المنظمين.

وهناك ألف فائدة من الحضور، فهؤلاء المحاضرون هم نخبة الأساتذة الجامعيين في تخصصاتهم أو سياسيون مخضرمون، بعضهم كان في مركز القرار والتأثير حتى وقت قريب، وآخرون ما زالوا في هذه المراكز، أي أن هناك فائدة علمية عظيمة في الاستفادة مما يقولون، بالإضافة إلى تبادل بطاقات الأعمال وتوسيع الدائرة التي تتعامل معها السفارات.. وهو من صميم عمل الملحق الإعلامي وموظفيه.

فائدة أخرى عندما يذكر محاضر أو سائل معلومة خاطئة أو متجنيه على البلد الذي يمثله هذا الموظف في السفارة، سواء كان الملحق الإعلامي نفسه أو من يعمل معه، فإنه سيجد من يستطيع أن يصحح المعلومة أو على الأقل يشكك فيها، لا أن يأخذها الحضور كمسلمة. كما أنها تمنح المرء تدريباً مجانياً على كيفية إقامة مثل هذه الندوات، وكيفية التحدث والتفاعل مع الحضور، والرد على الأسئلة الصعبة. وكلها أمور لا غنى عنها لأي دبلوماسي. وعندما لا يكون هناك تمثيل رسمي فمن الطبيعي أن يتم الاحتفاء ببعض رموز المعارضة المقيمة في الخارج، والتي ليست لديها أية مشكلة في حضور مثل هذه المناسبات للترويج لأجندتها السياسية.

حين أحاول تفسير هذا الغياب الدبلوماسي العربي يرد في بالي أحد أمرين: إما أن هناك منعاً رسمياً أو في أحسن الأحوال عدم تشجيع للمشاركة الثقافية والفكرية من قبل الدولة الأم لسبب لا يمكن فهمه، ولكن إذا كان هذا صحيحاً فلماذا لم تتغير الصورة حتى في دول الربيع العربي بعد الثورات؟ فأين الدبلوماسيون المصريون والتونسيون والليبيون واليمنيون عن حضور هذه الندوات التي تناقش مستقبل بلدانهم؟

السبب الآخر قد يكون عدم الاهتمام أو اللامبالاة، والتي مردها أن الشخص غير المناسب موضوع في مكان ليس مكانه، فحين لا تكون شخصاً لديه اهتمام حقيقي ومعرفة جيدة بالشؤون السياسية والثقافية والفكرية، سواء عن طريق الدراسة أو التثقيف الشخصي، فكيف نتوقع منك أن تخصص جزءاً من وقتك لمتابعة أمور ليست أصلاً في دائرة اهتمامك؟ فأنت موظف تأتي لأداء مهامك المكتبية خلال ساعات الدوام، وليس مطلوباً منك في نظرك أكثر من ذلك.

ليس سراً أن هناك بضع دول بعينها تتحكم بمصير العالم اليوم، سواء فعلياً عن طريق جيوشها وقراراتها في مجلس الأمن والأمم المتحدة، أو ثقافياً عبر استخدام العولمة بأقصى ما يمكن لتصدير فلسفتها ومنتجاتها الجيدة كما الرديئة. وأن تتاح لك الفرصة أن تتواجد في عواصم إحدى هذه الدول، ولا سيما إن كنت موظفاً في سفارة بلدك، فهذا يعني أن عليك أن تستغل كل فرصة لتتعلم أولاً كيف تدار اللعبة الدولية عن طريق معرفة كيف يخطط أصحاب الشأن، ومن ثم تستخدم معرفتك هذه في خدمة عملك ووطنك وأمتك.. فالمعرفة هي القوة..هكذا كان الحال دوماً وهكذا سيبقى.