«التعليم عن بعد والبعد عن التعليم»، عبارة سمعتها من إحدى قريباتي، وهي مديرة في مدرسة خاصة، وأعلم جيدا ما عنته بها، وهو المعاناة التي مرّت بها مع الطالبات والمدرسات والأمهات.

فالأمر لم يكن سهلا، أن يتحول كل شيء إلى العالم الافتراضي، والغالبية ليست لديها فكرة عن كيفية تفعيل هذا الإجراء، أو لنقل هذا الأسلوب في التعليم والتعلم، فضلا عن الذين كانوا يعانون من مشاكل تقنية من تقطع مستمر، ومنهم من كان يعاني من وجود أكثر من تلميذة وطالبة في الأسرة الواحدة، بمعنى ضرورة تعدد الأجهزة مع عدم توافر الإمكانية المادية، ثم هنالك من لم تكن تعلم كيف تتابع الأبناء لعدم معرفتها أو تمكّنها من المهارات اللازمة لذلك، ومنهنّ من تركت الأمر -كما يقال- «على البركة»، لا تعلم ما إذا كان أبناؤها يدخلون أم هم خارج نطاق التغطية معرفة ورغبة وقدرة!.

والجدير بالذكر هنا، أن التعليم عن بُعد له مناهجه وأساليبه وأنشطته، وحتى طرق التقويم التي تتماشى مع كل ما سبق، وأن يتحول منهج صُمّم ليكون للدراسة في صفوف المدرسة، إلى منهج للتعليم عن بعد، هذا في حد ذاته نقطة يجب أن نركّز عليها.


المهم هنا، أنه تم اتخاذ القرار كي لا ينقطع أبناؤنا عن التعليم، وأدى ذلك إلى استمرار التواصل، على الأقل بالنسبة لكثيرين.

وكما ذكرت سابقا، هذه تجربة تستحق أن تُدرس وتُحلل، وأن نخرج بتوصيات تسهم في تطوير التعليم عن بُعد، لأنه كما هو واضح سيكون هذا الأسلوب هو المعتمد في التعليم المستقبلي، ليس على المستوى المحلي، بل على المستوى الإقليمي أيضا.

هنا، نعود إلى العبارة الأساسية التي دفعتني إلى التفكير فيها من منطلق آخر، ألا وهو الجانب الأكثر أهمية من عملية التعليم عن بُعد، ومن المنزل تحديدا، وهو أمر قد يكون غائبا عن مركز انتباهنا، هذا الأمر هو أن أبناءنا معنا طوال اليوم، بمعنى حولنا وبيننا أكثر من أي وقت مضى من فترات حياتهم وحياتنا، وأن أي حركة وأي كلمة وأي تصرّف أو سلوك، يُسجّل في ذاكرتهم بكل دقة ووضوح، فهل نحن مدركون خطورة وأهمية ذلك؟!

أرى أنه بدلا من أن نعدّها فترة ضغط، أو أعمالا إضافية على كاهل الجميع، لماذا لا نتخذها فرصة لنغرس فيهم بعض السلوكيات التي تعدّ مهمة لهم في حياتهم المستقبلية الأسرية.

فمثلا، نحن في الشهر الفضيل، شهر الصيام مع الحجر، قد يضع بعضنا في حالات نفسية ربما تدفعهم إلى التعصب، أو ربما تدفعهم إلى القيام بسلوكيات، أو التلفظ بكلمات ليست حتى من طباعنا، ولكن كما قلت هنالك مسجل فطري يراقب ويسطّر في حافظة الذاكرة كل صغيرة وكبيرة!.

لا بأس أن نختلف في الأسرة، ليس هذا الاختلاف عيبا، بل هو أمر صحيّ، ولكن يجب أن يكون هذا الاختلاف مغلفا بالحب والإيجابية. هنا نعلّم الأبناء كيف يكون الاحترام مع التحاور المنتج والنافع لكلا الطرفين.

ومن جهة أخرى، فإنه إذا رأى الأبناء آباءهم يتجولون في المنزل على شاكلة «تأبط شرا»، يصرخون أمام هذا، ويتذمرون من فعل ذاك، بوجوه لا تضحك للرغيف الساخن، كما يقال في المثل الشعبي، فستمرّ الفترة عصيبة على كل من في المنزل، وترى الجميع يمشي وكأنه يمشي على قشور البيض، خوفا ورهبة!. والمصيبة أن الأبناء حين يرون ذلك يعدّونه أمرا طبيعيا، بل سينظرون إليه على أنه طريقة لحل المشكلات!، بمعنى أطلق لمشاعرك السلبية العنان، واضرب بها كل من يقع في طريقك، فسيهابك الجميع، وتتم تلبية رغباتك بسرعة!.

ما المطلوب منّا إذًا؟! المطلوب منّا هو أن نتحكم في مشاعرنا، وأن نضبط انفعالاتنا، وأن نعود إلى الفطرة في دواخلنا ونتواصل معها، فالفطرة في داخلنا هي السلام والمحبة، الفطرة في داخلنا هي التعاطف والتضحية والعطاء، الفطرة في داخلنا هي المساحة المهملة التي يجب أن نعود إليها ونغذيها، لتثمر وتعود إلى الحياة من جديد، وعندما نصل إلى هذه المرحلة نستطيع أن نتحاور برقي ومحبة وتفاهم، أن نبيّن لأبنائنا أنه صحيح أن الظروف صعبة، ونحن نعيش تحت ضغوط كبيرة، ولكن ما يهمنا هو الأسرة وصحتها، ولهذا سنقوم بكل ما يسهل عليهم الحياة داخل هذه الأسرة، ونبحث عن كل فرصة كي نعبر خلالها عن شكرنا وامتناننا عن كل ما يقوم به الآخر وكل آخر داخل هذه الأسرة، مهما كان العمل بسيطا، ولا ننسى أن نتحدث أمامهم عن كل ما يقوم به الأب أو تقوم به الأم لراحتهم، وتشجيعهم على تقدير ذلك والتعبير عنه.

أذكر يوما ليس ببعيد، حين كان يدخل الأب إلى المنزل، فيجري الجميع للقائه والتسليم عليه، وفرحة القلوب تظهرها الأعين، أذكر حين كان يمازح الأب زوجته ويمطرها بكلمات الشكر على تعبها في المنزل طوال اليوم. أذكره اليوم وأريد من أبنائنا أن يذكروه غدا.

أن نحوّل التحديات إلى فرص ذهبية في مسيرة حياة أبنائنا، نعمةٌ كبيرة من نعم الخالق، فلنستغلها ولا نضيعها، فهم أولا وأخيرا جواهر المستقبل وكنوزه في طور التشكيل.