تبدو قصة هذا الشاب أقرب للتراجيديا، من شاكلة تلك التي يتعلق فيها البطل بضوء خافت في سواد الليل. كان طفلاً في الثالثة عشرة عندما أحضروا للمنزل جثث خمسة من أهله في حادث طريق.. والديه وبعض أقاربه. وفي اليوم التالي تماماً كان عليه أن يرحل مع أشقائه الصغار من شمال الجنوب إلى جنوب الجنوب. وحتى هذه البوصـلة لمن يدرك، لا تزيد المشهد إلا بعـض أصباغ السواد طالما كان – الشمال – هو الأمل، حتى في الاتجاه الطبيعي لحركة الريح، وحتى في هجرة الطير التي لا تذهب صوب الجنوب إلا في فترات شتوية عابرة.
قابلته الأسبوع الماضي في صدفة عابرة من تقاطعات هذه الحياة. طفولة من اليتم التي تحاول الارتقاء لعشرين عاماً في ظرف يوم كي يكون الأب والأم في بيت "الجدة" الجديد، وكل مرة يذكرني بمشهد عيون الأطفال يلتفتون إلى مناظر الجثث الخمسة. بعض الصور تحفر في عقل الإنسان حفرة لا تزول حتى يرحل ذات العقل جثة جديدة. حاول أن يعمل في كل شيء، وأي شيء، وإلى كل شيء من شيء. لكن السقف المتاح في كل الأشياء لم يقفز حاجز الألفي ريال لشاب هدفه في الحياة أن يكون جسر تعويض لهؤلاء الصغار وما أثقل الطفولة حين تتحول إلى أمومة وأبوة.
هنا تضيق الأرض، دائماً مثلما يضيق الجنوب في مواسم الهجرة للشمال. أمامه تلوح مدينة الرسول الطاهرة في عيون شاب تقي ذهب إليها من أجل الآخرة وشيء من نصيب الدنيا الضائقة. لا يعرف كيف كانت الأقدام تسوقه إلى مكتب أميرها مثلما ضاعت منه تفاصيل اللقاء المدهش. كيف كانت وبأي سهولة مضت، إنها الأقدار حين تقابل فيها قيمة الإنسان وهو يحمل من – السمو – كل حروف الكلمة. عشر دقائق ثم ينصرف على الوعد بالوظيفة. بضع سويعات ثم يأتي الاتصال من مكتب الأمير ليعمل مباشرة من الغد. غرفة سكن في بيت الأمير مع التأكيد على مراعاة ظروفه. وأنا هنا لا أطلب من أمير أو وزير أن يفعلوا المستحيل مع كل طلب ولكن: أحترم في الإنسان أن تكون لديه الفراسة الإنسانية كي يقرأ الظرف الإنساني في وقته المناسب. هذا الشاب لا يتحدث عن أمير المدنية المنورة من أجل فرصة حياة. إنه يتحدث عن الإنسان حين يكون طوق نجاة. شكراً لسمو الأمير عبدالعزيز بن ماجد، ذلك الإنسان الذي لا أعرفه ولا يعرفني وكل ما وقعت عليه عيوننا من القواسم المشتركة ليس إلا هذه القصة. شكراً لفراسة الإنسانية التي اختارت هذا (الوجه) من تلك القرى المنسية.