اكتشاف مخيب يبدد طمأنينته، ويهز تماسكه الداخلي. فما يفعله إذن أقل أهمية مما تخيل. والدائرة التي يشغلها في مجتمعه أضيق من أن ترضي طموحه، أو تحفظ له ثقته بنفسه.. لقد خدع. ذلك هو شعوره. ولأنه لم يتهيأ من قبل لمواجهة هذا الوضع فإن جهده يتركز على الفرار منه. يريد أن يتملص، وأن يستعيد، ولو وهما، طمأنينته الداخلية.. وهكذا ينساق تدريجيا إلى ردود فعل تسيء إلى عمله، وأحيانا تنهيه ككاتب.
من ردود الفعل هذه أن يلقي الأديب مثلا تبعة أزمته على العالم الخارجي وبذلك يتخفف منها، وينفض المسؤولية كلها عن كتفه. فالواقع بما فيه من تخلف وأمية وجهل هو الذي يفرض عليه العزلة، ويحشره في هامش خانق، إنه هناك. جدار سميك لا يمكن اختراقه. يقف في وجه الأديب غير مبال يحاصره، ويناصبه العداء. وينشب بذلك سوء تفاهم مؤسف بين الأديب وواقعه. يبدأ بالتذمر، وقد يصل إلى حد الازدراء. فهؤلاء الراسفون في أميتهم وعقليتهم المتخلفة لا يستطيعون فهمه أو حتى الإصغاء إليه. يفصله عنهم خندق عميق من المستحيل ردمه.. ومع الأيام يصبح الأديب سجين موقف يعادي الواقع، ويتعالى عليه. فالحوار مسدود، وهو يحس نفسه أكبر من مقاس هذا المجتمع اليومي الضحل، كما أن عمله أرفع مستوى من معاصريه، ولهذا يدير ظهره للمجتمع، ولمعاصريه، ويتوهم بشرا سيجيئون، وسيكون واقعهم مختلفا. يكتب لهم، لأنهم القادرون على فهمه والانفعال بالنار الموقدة في كلماته. وإذ يقول الأديب: (إني لا أكتب لهؤلاء الناس، بل للأجيال القادمة)... فإنه يتغلب بهذه العبارة على شعوره بالخيبة ويبرر انقطاعه عن واقعه، وغرقه في تجاربه الذاتية، أو أنه بتعبير آخر يكشف عن سوء تفاهمه مع المجتمع ومشكلاته. فهو عاجز عن الاتصال به. عاجز عن الانتماء إليه. عاجز عن تبني قضاياه.
وقد يتخذ الوضع صورة أخرى. إذ يجابه الأديب واقعه بالمثل، ويرد على لامبالاة الناس بلا مبالاة أشد. فيفقد تدريجيا دوافعه الأساسية للإبداع ويقل اهتمامه بعمله، واحترامه الداخل لمهنته كأديب.. حتى يصبح إنتاجه مسألة عرضية في حياته. وربما تفاقم لديه الإحساس بالعجز إلى حد التوقف نهائيا عن الكتابة. حينئذ ينكمش، ويتحول إلى بوق متذمر يسفه كل شيء، ويميع كل عمل في تهكم بارد، وسخرية صفراء. وعندما لا يتوقف فإنه يكتب دون جهد وبكثير من الاستهتار، متذرعا بأن أحدا لا يقدر وأن الجيد يستوي في النهاية مع الـرديء. بهذه الحجة أيضا يبرر موقفه عندما تجرفه دوافع أخرى إلى توظيف الكتابة للإثراء وزيادة الـدخل.
فيتحول إلى كاتب كهربائي يعمل على الأزرار. تضغط عل زر المسرحية فتهر مسرحية، وتضغط عل زر التمثيلية القومية، فتهر تمثيلية قومية. وتضغط عل زر المقال، أو المسلسل الإذاعي.. أو.. فيأتيك العمل جاهزا خلال أيام. وتزداد بذلك كميات الأدب التخديري التافهة. وتنزف خزائن أجهزة الثقافة والإعلام في جيوب هؤلاء الأدباء الإلكترونيين.
وهذه الأشكال من ردود الفعل ليست مجرد استجابات نفسية عابرة. وإنما هي في الجوهر مؤشرات لمواقف فكرية من الواقع بشكل عام، ومن «دور الأديب في مجتمعه» بشكل خاص. فعمليات الهروب هذه ما كانت ممكنة لولا أن موقف الكاتب يسمح بها، أو يقود إليها. ويمكننا القول بأن ارتباط هؤلاء الأدباء بالبيئة هش، كما أن مفهومهم عن دور الأديب في بلده مائع وغامض. لقد توهموا لأنفسهم أدوارا مستعارة لا يستـطيع واقعنا استيعابها. وعندما لم تتحقق خيالاتهم أعولوا، وتصادموا مع الواقع.
هؤلاء الأدباء ينسون مثلا أنهم جزء من بيئتهم بكل تخلفها وأمراضها وتفشي الأمية فيها. ينسون أن هذا الواقع هو الجغرافيا الـوحيدة التي يمكنهم، ويجب عليهم، التحرك فيها.. وأنهم في النهاية يحملون مسؤولية مضاعفة تجاه أوضاعهم، أولا لأنهم أبناؤها وثـانيا لأنهم الأبناء المزودون بالوعي، وطاقات الإبداع.
لهذا فمن أبسط البديهيات أن يكون الموقف الصحيح هو الانغماس في الواقع أكثر فأكثر، بدلا من معاداته، فهمه والتعمق بمشكلاته بدلا من التعالي عليه. تفصيل دور يناسب هذا الواقع بدلا من توهم أدوار مطلقة ومربكة تنتهي بنا إلى الضياع أو القلق. ففي بلد متخلف كبلدنا لا يمكن أن يكون الأديب ذلك الفرد الأسطورة، الذي يفرض حالاته المزاجية على مجتمعه، والذي يجعل من فرديته القيمة الوحيدة الأساسية في العالم.
*1972
* كاتب وناقد مسرحي سوري «1941- 1997»