كانت منحدرات الوادي ملأى بأشجار الزيتون أينما اتجهت العين، غير أن هذه الزعرورة البرية التي لا يعلم أحد من زرعها، ولعلها انبثقت عن الأرض بين صخرتين كبيرتين في زمن لا يذكره أحد، كانت تتباهى بعلّوها، وتفرّعها وشموخها، وحيدة بين أتراب لا تنتمي إليها. نراها واضحة من على الطريق، لأن أغصانها العليا باتت أعلى من الحافة، تهتزّ لنا مع كل نسمة هواء، كأنها تدعونا إليها عن قصد، وعن رغبة. وما علينا إلا أن «نتعربش» على صخرة أو اثنتين، ثم نقفز إلى فرع منها، ثم نرتفع إلى شبكة الأغصان والأوراق الكثيفة، ونملأ جيوبنا بثمارها الصفراء الصغيرة، الحلوة.
وفي أيام «جداد» الزيتون، كنا نجعلها مدخلنا إلى أشجار الوادي. وكان القاطفون، ومعهم العصي والسلالم، يقطفون الزيتون بدراية تعود إلى آلاف السنين، وهم يغنون ويهزجون. وكانت «على دلعونة» أحب الأغاني للجميع، ما يكاد فصل الخريف يأتي حتى يمتلىء الوادي بها من حناجر القاطفين، رجالا ونساء، صبية وصبايا، وهم يهزّون بالجذوع والأغصان، ويضربونها بعصيّهم، ويدركون أعاليها المتمنعة بالسلالم، فتتساقط الحبات الخضراء كاللآلىء على التربة الحمراء. ويلتقطونها حفنات، ويملؤون بها السلال والأكياس، وينتقلون من شجرة إلى شجرة، وتنتقل معهم الأغنيات وأنغام المجوز والشبابة، ومهما يكن وقت النهار يظل دائما أحدهم -قد نراه أو لا نراه- يعزف على الشبابة أو المجوز بمفرده مرسلا، من على مجثمه على صخرة في مكان ما، ألحانه المتواترة التي تتردد أصداؤها كالنسمات المسترسلة في أرجاء الوادي العريض. وتبقى حبات من الزيتون عاصية هنا وهناك على الأغصان، أو مختبئة بين الحجارة وفجوات الأرض التي قد يبطنها القريص، أو أنواع من الحنون الخريفي.
كنا نحمل أكياس المدرسة -إذ تُعطل المدارس لبضعة أيام كي يتسنى للطلاب المشاركة في قطف الزيتون- و«نصيف» وراء القاطفين. أي أننا بعد أن يغادروا الشجرة، نلتقط ما فاتهم من الحبات الشاردة، أو العاصية، على قلتها. وهي حلال لمن ينالها. ونلقمها أكياسنا الصغيرة. وإذا امتلأ كيس الواحد منا، عدنا إلى الزعرورة المتفردة، إن كان في النهار بعد بقية، لنتسلقها، ونغني نحن أيضا أغانينا، فرحين بما جنينا.
كنت أحاول أن أفهم معاني الكلمات البدوية في الأغنية، وأتلذذ بالغريب منها. ويروق لي أن أتصور كيف يغيّر «هوا الشمالي» ألوان المحبين، الذين أراهم سمرا، لوحتهم الشموس، فأبرزت اتساع عيونهم الحوراء الكحيلة، وهي تبرق وتلتمع، وهوا الشمالي يهب عليهم، ويزيد من سمرتهم وحلاوتهم:
على دلعونة وعلى دلعونة
وهوا الشمالي غيّر لي اللونا...
لأكتب لحبي في ورقة زرقة
وأكثر سلامي للبنت العلقا
وان كان. يابنت بتريدي الفرقة
تعالي واحكي لي بالتلفونا...
كنت أحاول أن أتخيل صوت هذه المحبوبة «العلقا» وهي تلثغ في «تلفون» رأيته عند بعض الناس، ولم أضع سماعته على أذني قط. وبعد ذلك بسنوات، عندما تحدثت بالتلفون -للمرة الأولى- كانت هذه الكلمات وهذه الأغنية أول ما خطر ببالي، وتمنيت لو أن محدثتي هي تلك البنت «العلقا» التي جاءت عبر الأسلاك تريد «الفرقة»، وأنا أقطف الزيتون في وادي الجمل، وأملأ جيوبي بحبات الزعرور، فأسألها: لماذا بربك تريدين الفراق.
*1985
* أديب عراقي / فلسطيني «1920 - 1994»