إن من أكبر البلايا التي أصابت العالم العربي في مقتل هي تلك الأنظمة العسكرية التي جثت فوق كراسي الحكم عبر الانقلابات وفوق ظهور الدبابات، وأسهمت في جرجرة العالم العربي إلى ما وراء الوراء وأردته خلال عقود طويلة في سراديب الرعب والتخلف وأطعمته شعارات جماهيرية براقة لا تسمن ولا تغني من جوع.

ومع أنني لا أشتهي لقمة الفكرة التآمرية ولا أستطعمها لكثرة ما يلوكها الناس في جدالاتهم، لكنني أكاد أنحاز في هذه الجزئية بالذات إلى أن الأنظمة العسكرية التي تولت سدة الحكم في مصر وسورية والعراق وليبيا واليمن إنما تيسر لها هذا الأمر بترتيب دولي أو من خلال إغماضة متعمدة من الدول الكبرى التي ترفع شعارات حقوق الإنسان والحرية والديموقراطية لكنها لا تحرك ساكنا أمام أنظمة عسكرية قمعية بقيت لعقود طويلة تتحكم في مصائر شعوبها، لا لشيء، إلا لأنها ـ أي هذه الحكومات العسكرية ـ تمارس بمهارة سياسة "التنفيس" و"فش الخلق" لدى شعوبها من خلال رفع عقيرتها في كل المحافل بشتم إسرائيل وتهديدها بالويل والثبور وعظائم الأمور لكنها في الباطن تتواطأ مع إسرائيل بما لا يهدد بقاءها في مقابل دعم استمرار وبقاء هذه الأنظمة العسكرية من تحت الطاولة.

لقد تولت هذه الأنظمة العربية العسكرية بحرفنة مشهودة قيادة فيلق الصمود والتصدي في مواجهة كل مشاريع التسوية مع إسرائيل، متعمدة في ذلك إفساد نجاح أي مشروع عربي للتفاوض حول استعادة الأراضي المسلوبة بما يخلق حجة جاهزة لدى الدول الكبرى ولدى إسرائيل في أن العرب منقسمون وليست لديهم رؤية واضحة، وأن منهم من لا يزال يتطلع للقضاء على اليهود وقذفهم في البحر.. بل لقد مارست كثير من هذه الأنظمة العسكرية الوصاية على أهل الحق الأصليين من الفلسطينيين وتولت شق الصف بينهم، حتى وجد الفلسطيني التابع لبعث العراق، والفلسطيني التابع للبعث السوري، والفلسطيني اللجنوي والشعبوي الليبي، وانقسمت منظمة التحرير الفلسطيني إلى فرق مشتتة تتطلع للفتح بحماس لكنها لا تملك القرار!!

كان رفعت الأسد (عمو لبشار وخيو لحافظ) رئيسا لسرايا الدفاع، وهو من تولى تأسيسها، وكلف تشكيلها ملايين الدولارات والروبلات التي كانت تصب في خزينة الاتحاد السوفيتي على حساب قوت الشعب السوري، وكان هدف هذه السرايا حماية الرئيس وحاشيته وحماية النظام، أقول هذا حتى لا ينصرف "سوق" الظن إلى أنها تأسست للدفاع عن سورية الدولة أو حمايتها من العدو الإسرائيلي المتربص، وأيضا حتى لا يشك في سلمية النظام السوري الذي كان ولا يزال خير جار ومجير لإسرائيل التي تشرف على دمشق من فوق تلة عالية تدعى هضبة الجولان، والتي ينعم ساكنوها من اليهود بأمن لا ينعم به أهل الوطن الأصلي ولا حتى الجار ذي الجنب في لبنان.

يروى أن رفعت الأسد خلال الحرب الأهلية في لبنان قال لبيار الجميل رئيس حزب الكتائب وكانت علاقة سورية بالكتائب في حينها (سمن على عسل): اجعل فلسطين شعارا يتردد على لسانك دائما وارفع سلاحك في وجه كل من يختلف معك.

لقد كانت فلسطين شعارا تلوكه وتزايد عليه هذه الأنظمة القمعية، وكان المواطن العربي المغلوب على أمره يتطلع لمثل هؤلاء الذين يشبهون رؤساء روابط التشجيع في الملاعب الكروية، ويعلق عليهم الآمال في تحرير الأرض، لكن الواقع يقول إن أمل التحرير تلاشى وبقي الأمل في الحد من توسع هذا العدو.

كانت أخبار فلسطين والعدو الإسرائيلي أول فقرة في نشرات الأخبار العربية، ثم صارت بفضل همة هؤلاء القادة المخلصين! قبل أخبار الطقس والرياضة، وقد تمر - كمثل هذه الأيام - أيام عديدة لا نسمع فيها أي خبر عن قضية العرب الأولى!

حتى صارت لفرط بعدها اليوم عن تفكير المواطن العربي وتدني درجات الاهتمام بها جديرة بأن تسمى قصية العرب الأولى!