في مقالة الأسبوع الماضي تحت عنوان "التجنيد الإجباري والبطالة" أشار كاتب هذه السطور لطرح الدكتور وديع كابلي حول رفع مستوى الأجور، بحيث يعامل العامل السعودي معاملة العامل الأجنبي كما في الدول الغنية لا كما معاملة العامل في الاقتصادات الفقيرة كما هو الحال لدينا اليوم، والفكرة تتعلق برفع مستوى الأجور لتعادل مستوى الدول الغنية التي يجب أن نقارن أنفسنا بها مع رفع الاعتماد على الميكنة لكي نؤسس اقتصادا يعتمد على كثافة رأس المال (Capital Intensive) وليس على كثافة العمالة (labor intensive) كما نرى اليوم في اقتصادنا، فالاقتصاد القائم على كثافة العمالة يعتمد بالأساس على وجود قوى عاملة رخيصة التكلفة وقليلة المهارة، بينما يعتمد الاقتصاد القائم على كثافة رأس المال على استخدام أوسع للميكنة (automization) وعلى مستوى عمالة ماهرة، وما تقوم به المملكة اليوم من محاولات للسعودة إنما يتم في إطار إبدال العامل الأجنبي بالسعودي دون تعديل في هيكلية الاقتصاد، وستظل هذه المحاولات محكومة بالفشل طالما تمت عملية الإبدال في ظل نفس الهيكل الاقتصادي الذي يعاني في الأساس من تشوه كبير، ولأنه ستظل من الصعوبة بمكان أن ينافس العامل السعودي نظيره الأجنبي الأكثر استعدادا للقبول بالعمل في ظل الهيكلية الاقتصادية القائمة.
مشكلة البطالة القائمة والتي تتفاقم هي مشكلة بنيوية في الأساس، ومعالجتها لن تعتمد على برامج من قبيل السعودة أو حافز وهي مجرد برامج تحفيزية لتعيين مزيد من السعوديين ضمن هيكل اقتصادي هو بالأساس طارد لتعيينهم بالشكل المطلوب في الاقتصاد.
في عام 2009 تم توفير ما يقارب 800 ألف وظيفة في اقتصادنا، ولكن أغلبها ذهب مع الأسف للعامل الأجنبي، كون ما يتم خلقه من وظائف في الاقتصاد مصمما للعامل الأجنبي بسبب هيكلية الاقتصاد المشوهة، وللمثال فإن برنامج حافز يقدم للعاطلين عن العمل مبلغ إعاشة شهريا يبلغ 2000 ريال في حين أن الحد الأدنى لأجور السعوديين يبلغ 3000 ريال، ولذلك ليس من المتوقع أن يقوم السعودي بالحصول على وظيفة يكدح فيها طوال شهر لمجرد زيادة قدرها 1000 ريال فقط، فإما أن يكون المواطن على درجة عالية من التأهيل العلمي والعملي التي تتيح له منافسة الأجنبي صاحب التخصص والخبرة في الأعمال ذات الدخول المرتفعة أو أنه سينافس الأجنبي في الأعمال ذات الدخول المنخفضة، وهنا يفقد السعودي أي ميزة تنافسية بسبب كون الأجنبي على استعداد للقبول بحدود أدنى للرواتب وبساعات عمل أطول وخلافه من الأمور التي ترتبط بالاقتصادات المعتمدة على الكثافة العمالية، وهي منافسة محسومة سلفا لغير المواطن السعودي.
فالحالة الاقتصادية السعودية القائمة فريدة من نوعها، هناك طفرة اقتصادية مع مستويات مرتفعة من خلق الوظائف في ظل بطالة بين المواطنين تتفاقم وتزداد بوتيرة كبيرة، والحل لن يكون إلا بإعادة النظر في الهيكلية الاقتصادية القائمة على الكثافة العمالية، حيث لدينا جيوش من العمالة الأجنبية وإحداث تغيير في اقتصادنا لجعله يعتمد على كثافة رأس المال وعلى الاستخدام الأوسع للتقنية والميكنة لزيادة إنتاجية العامل الفرد، وللمثال يمكن بدلا من تعيين عشرات من عاملي النظافة في الشارع الذين يقومون بالتنظيف باستخدام أدوات يدوية بدائية أن نقوم بتعيين مواطن سعودي على عربة نظافة مكيفة ومجهزة بالتقنية والأساليب الحديثة كما في عربات النظافة في الدول الصناعية الغربية مع رفع أجر السعودي العامل عليها لنفس مستوى الأجور في الغرب فيعطى راتبا يقارب مثلا من 15 ألف ريال مع تأمين طبي ونظام تقاعدي وسكن مناسب، ومثل هذا الانتقال لكثافة رأس المال من شأنه أن يحقق عدة أمور:
أولا، تعيين السعوديين بصورة واسعة في الاقتصاد حيث سيصعب رفض مثل هذا الراتب المجزي، ولن تصبح مسألة الوظيفة بحد ذاتها تحديا طالما تم الارتقاء بها وبمستوى المعيشة كما نرى في الدول الصناعية الغربية.
ثانيا، من شأن مثل هذا الارتقاء بالأجور والوظائف أن يكون حافزا مهما لأن يقبل السعودي بالتدرب على مثل هذه الوظائف، فكثافة رأس المال تعتمد بالأساس على استخدام التقنية والمكائن ومن شأن رفع الأجور ومستوى المعيشة أن تحفز السعوديين على القبول بها.
ثالثا، زيادة الإنتاجية حيث يصبح إنتاج الفرد الواحد هنا معادلا لإنتاج عشرات الأفراد في ظل اقتصاد يعتمد على الكثافة العمالية، هو الأمر الذي يلغي بالتبعية التخوف من أن يؤدي هذا الأمر لزيادة نسبة التضخم، فالزيادة في الإنتاج ستظل أكبر من التضخم، وبالتالي سيتم الارتقاء بمستوى المعيشة ككل للمواطنين.
هذا المثال ينطبق على كل قطاعاتنا، فكل عشرة مزارعين أجانب يمكن استبدالهم بسعودي واحد يعتمد على الآلات الحديثة في الزراعة والري، وكل عشرة عمال بناء يعتمدون على تقنيات بالية في البناء يمكن استبدالهم بسعودي واحد يعتمد على التقنيات الحديثة في البناء تماما كما نرى اليوم في اقتصادات الدول الصناعية الغربية، وهكذا دواليك، سنجد أن المواطن بدأ حقيقة في إحلال العامل الأجنبي في كل المجالات، وخاصة المجالات التي تتركز فيها غالبية العمالة الأجنبية في اقتصادنا، ولكن هذا الأمر رهن بإعادة هيكلة اقتصادنا بشكل كامل وليس مجرد وضع ضغوط لتعيين مزيد من السعوديين في شكل مسكنات وقتية تؤجل الاستحقاق ولا تعالجه.