إنها الشاعرة الأولى في كتاب حداثتنا الشعرية..
ولعلها الأكثر رسوخاً وتعدداً في حقل الكتابة والأدب والقراءة الاجتماعية ونحن لا نجد هذا المعمار الكتابي إلا نادراً بين أدبائنا وأديباتنا ..
تعود "فوزية أبو خالد" إلى أرضها، بعد أن قضت فصل الربيع العربي، أو بعضه وهي تحاول استعادة ربيعها الحياتي والوجودي من فم الذئب، أي من أرخبيل السرطان الشرس الذي لم تردعه بعد كل فؤوس الأرض.
إذا كانت فوزية ليست حريصة كثيراً على ادخار ريادتها النسوية للقصيدة الجديدة في بلادنا، فإنني لا أعرف كيف أصنف عملها المبكر:" إلى متى يختطفونك ليلة العرس" الذي ظهر إلى النور في 1973م وعبر دار مرموقة آنذاك هي "دار العودة" التي لم تتردد في التعريف بتجربة غضة أتت من الرياض حيث ينسدل على المرأة حجاب السنين وقهر الزمن ووصاية التقاليد، كما قدم لها الناشر. لقد قرأت هذه المجموعة في أواخر السبعينات، حيث كنت أتشكّل وأصنع أولى خفقاتي الشعرية، وإنني لأتذكردائماً ذلك الوهج الذي خلفه الديوان في وعيي ولغتي وفهمي لدور القصيدة. أعتقد أننا قرأناه منسوخاً في تلك الأيام حيث أسوار المنع المتطاولة ولم ننج من مقارباتها الساخنة ولغتها الفطرية ومن فجيعتها المبكرة.
تلك القصائد كانت أولى طلقات قصيدة النثر المحلية، حيث لم تكن قصيدة التفعيلة قد اكتملت أجنحتها ولم يكن للأدب الجديد في حياتنا أي مرتقى أو فسحة...!.
ماذا أقول لفوزية؟، وكيف أخاطب آلامها لكي تكف عن إرهاق جسدها العليل؟ وكيف أزجر ليلها الأسود كي يرد إليها حصتها من النوم؟، وأقول معها ياليت لنا حياتين، حياة نعيشها وحياة أخرى نمنحها لأحبائنا حين تتعثر بهم الدروب فنقف أمامهم كالنّصب الجامدة.
أنا أعرف هذه الحقيقة وهي أن المرء يواجه مرضه العضال متسلحاً بقدرة الله على الشفاء وبأدعية الأقارب والأصدقاء، لكنني أعرف أيضاً أنه يواجهه وحيداً، يواجهه كفرد ينازل كتيبة من الأعداء لا أمام الناس بل في أشد درجات العزلة. فلا أحد يشهد حربك الضروس وعليك وحدك أن تنتصر فيها.
هذه ليست أولى منازلات فوزية أبو خالد، فقد واجهت ظروفها الصحية الاستثنائية بإرادة صخرية، وواجهت عنف المؤسسة الجامعية بشجاعة حين كانت التقارير الفاسدة تقضي بإحالتها من المنصة الأكاديمية إلى خزائن الأرشيف السفلية في جامعة مرموقة، وصمدت أيضاً أمام الأصابع التي قرّعت الحداثة ونالت منها في التسعينات دون أن تكل عزيمتها او يخالطها القلق.
كانت فوزية دائماً في قلب الأحداث معلقة وكاتبة وباحثة، وكانت الكتابة المنتظمة أمضى أسلحتها في مواجهة ضمور الواقع وجموده، وكانت ترى ضوءاً ما يخفق في قلب كل عتمة.
تعود "أم طفول وغسان " إلى منزلها لتطوي صفحة تلك الأشهر التي قضتها بالقرب من الأمصال الكيميائية الفادحة، لتستعيد إيقاع حياتها وتبدأ شجوناً جديدة تشبه "شجن الجماد".