سيقولون ما فضل مذهبكم الجديد على مذهبنا القديم، وماذا فيه من المزية والحسن حتى تدعونا إليه؟ وبأي معنى رائع جئتم، وماذا ابتكرتم من المعاني الشريفة والأغراض النبيهة التي تطلبونها وتبحثون فيه عنها؟، ولا تألون «أنتم» جهدا في الغوص عليها وفتح أغلاقها والتكلف لها، وقد لا نكون أحسَنّا صوغ القريض، ورياضة القوافي، ولكن خيبتنا لا يصح أن تكون دليلا على فساد مذهبنا وعقمه، إذا صح أننا خبنا فيما تكللناه -وهو ما لا نظنه- بل هي دليل على تخلف الطبع لا أكثر، ولا على فرض ذلك كله، فإن لنا فضل الصديق وعليكم عار الكذب ودنيئة الافتراء على نفوسكم وعلى الناس جميعا، وحسبنا ذلك فخرا لنا وخزيا لكم.

وليس أقطع في الدلالة على أنكم لا تفهمون الشعر ولا تعرفون غاياته وأغراضه، من قولكم إن فلانا ليس في شعره معان رائعة وشريفة، لأن الشاعر المطبوع لا يعنت ذهنه، ولا يكد خاطره في التنقيب على معنى، فهذا تكلف لا ضرورة له، أو ليس يكفيكم أن يكون على الشاعر طابع ناظمه وميسمه، وفيه روحه وإحساساته وخواطره ومظاهر نفسه، سواء أكانت جليلة أم دقيقة، شريفة أم وضيعة، وهل الشعر إلا صورة للحياة؟! وهل كل مظاهر الحياة والعيش جليلة شريفة رفيعة، حتى لا يتوخى الشاعر في شعره إلا كل جليل من المعاني، ورفيع من الأغراض؟، وكيف يكون معنى شريف وآخر غير شريف؟! أليس شرف المعنى وجلالته في صدقه، فكل معنى صادق شريف جليل.

ألا إن مزية المعاني وحسنها ليسا فيما زعمتم من الشرف، فإن هذا سخف -كما أظهرنا فيما مرّ- ولكن صحة الصلة أو الحقيقة التي أراد الشاعر أن يجلوها عليك في البيت مفردا أو في القصيدة جملة، وقد يتاح له الإعراب عن هذه الحقيقة أو الصلة في بيت أو بيتين، وقد لا يتأتى له ذلك إلا في قصيدة طويلة، وهذا يستوجب أن ينظر القارئ في القصيدة جملة لا بيتا بيتا، كما هي العادة، فإن ما في الأبيات من المعاني، إذا تدبرتها واحدا واحدا، ليس إلا ذريعة للكشف عن الغرض الذي إليه قصد الشاعر، وشرحًا له وتبيانا.


وأنتم، فما فضل هذا الشعر السياسي الغثّ الذي تأتوننا به الحين بعد الحين؟

وأي مزية له؟ وهل تؤمنون به؟ وهل إذا خلوتم إلى شياطينكم تحمدون من أنفسكم أن صرتم أصداء تردد ما تكتبه صحف الأخبار؟ وهل كل فخركم أنكم تمدحون هذا وترثون ذاك؟ وأنتم لا تفرحون بحياة الواحد إلا لماله، ولا تألمون موت الآخر إلا لانقطاع نواله؟ ما أضيع حياتكم!. ليس أدل على سوء حال الأدب عندنا من هذا الشك الذي يتجاذب النفوس في أولى المسائل وأكبرها.

ولقد كتب نقاد العرب في الشعر، على قدر ما وصل إليه علمهم وفهمهم، ولكنهم لم يجيئوا بشيء يصلح أن يتخذ دليلا على إدراكهم حقيقته. ولسنا ننكر أن كتاب الغرب متخالفون في ذلك، ولكن تخالفهم دليل على نفاذ بصائرهم وبعد مطارح أذهانهم، ودقة تنقيبهم وشدة رغبتهم في الوصول إلى حقيقة يأنس بها العقل ويرتاح إليها الفكر، كما أن إجماع كتاب العرب وتوافقهم دليل على تقصيرهم وتفريطهم، وأنهم كان يقلد بعضهم بعضا، إن لم يكن دليلا على ما هو أشين من ذلك وأعيب، غير أن هذا القلق والشك المستحوذين على النفوس لعهدنا هذا، هما الكفيلان بأن يفسحا رقعة الأمل، ويطيلا عنان الرجاء، لأن القلق دليل الحياة، والشك آية الفطنة، وما يدرينا لعلنا في غد نجني من رياض هذا القلق أزاهير السكينة والطمأنينة!.