تبدو – والدتي – يحفظها المولى عز وجل، في عقدها التاسع من العمر، أشبه ما تكون أنموذجاً مخبرياً حياً من أنموذج حياة – أمة – بأكملها مع تفاصيل القرون وذكريات الحبو إلى ذروة الماضي واستلاب مشاريع الذروة والنهضة من أيام مجد – قروسطي – لن يعود. تبرهن والدتي أن في تفاصيل – الأفراد – مع رحلة الزمن ما ينطبق مع تفاصيل – الأمم – في ذات الرحلة. تبرهن – أمي – في كل لحظة من لحظات – حدائنا – اليومي على صحة قول الفيلسوف الإنجليزي برنارد رسل: إن الأمم عندما تشيخ وتهرم، وعندما تغرب عنها شمس ماضيها الساخنة، تعود بالغناء لأمجاد هذه الشمس كأشبه ما تكون في حالة انقسام بين زمنين: بين اللحظة التي تعيشها مجبرة ولكنها تكرهها، وبين الحنين إلى المفقود التائه المنصرف من زمن لا يعيد التاريخ استرجاعه ونسخه.

حكمت وطأة الزمن وتقادم العمر، على أمي، أن تفقد أشياء يسيرة وبسيطة من ذاكرة الحدث اليومي ومن صوره الآنية المستحدثة. برهنت والدتي أن ذاكرة المرء مع تقادم الحياة مثل أحجار المثلث الهرمي حيث الذروة من الهرم لا تحتمل في مساحتها كثيرا من الأحجار وحيث يكون الثقل في الحجم والمساحة في قاعدة الهرم. حيث الإنسان، مثل الأمم بالضبط، يعود في ذاكرته إلى الكنز الثقيل من أحجار الذاكرة في قاعدة المثلث وفي بدء الهرم. ذاكرة الإنسان مع تقادم العمر مثل ذاكرة الأمة مع زوال المجد وأفوله. وفي التفاصيل لا تبدو والدتي مكترثة أو قلقة من الذاكرة المثقوبة التي يتساقط من ثقبها الصغير تفاصيل الحياة اليومية وبعض صور مشهد اليوم الآني. لا تهتم مطلقاً إن اكتشفت أنها نسيت بعض زوار البارحة أو ماذا قال لها الطبيب في العيادة ظهر أمس. لا تبدو منزعجة إن نسيت أن غداً هو الاثنين أو أننا الآن على مقربة من أذان صلاة العصر. لكن والدتي تتحول إلى شلال عذب هادر حين تسرد لنا طوفان الحكايات والأشعار من لذائذ عصرها المنقرض القديم. هنا تعود والدتي إلى – صبيّة – باسمة في عمر العشرين. تشعر أن تلك الأيام هي العصر الذهبي من كل تاريخ الإنسانية. إنه العصر – الوسيط – ذلك الألماسي الفاخر لا في حياة والدتي، بل في حياة هذه الأمة. ومثلما تستلهم الأمم كل تفاصيل العصور الوسطى حينما تشيخ وتهرم مثلما تستلهم والدتي كل تفاصيل زمنها القديم حتى في دهاليز القصص الثانوية الصغيرة.

تسكب والدتي دمعتين على التفاصيل المدهشة لذلك الصباح الاستثنائي من طفولتها وفيه زُفّت والدتها – رحمها الله – زوجة إلى تلك القرية القابعة على آخر حدود القبيلة. كأنها تتحدث عن غياب قسري إلى شرق الصين بمقاييس اليوم. تمسح والدتي عيونها ثم تستدير فجأة إلى النقيض وهي تردد في زهو وحبور سجال والدي الشعري في – سمرة – قروية وكيف هزم – المرحوم علي بن سالم – بآخر بيت من الشعر. تشعر والدتي أن هذا البيت الشعري وحده كان أعظم غزوة فكرية في حياة والدي – رحمه الله – مع صديقه الأغلى. تزجرنا والدتي حين تسمع أننا نستسلم لتقاسيم العود مع محمد عبده. لكنها تقبل بمضض يخفي كل الود والشوق ونحن نعطيها – المفراز – لنبدأ تراتيل الزحفة والخطوة (والله إني واكبير السن لا واعادني حق المساري وسمرة/ لاك واني كلما واسمع دنين الصوت يا واصاح أنا تشتاق روحي).

تشعرنا والدتي في كل الأحيان والظروف أنها خزان ممتلئ بكل بقايا الأمس وأنها على النقيض، تسقط بالعمد مع سبق الإصرار والترصد كل ما يكون من صور اليوم ومن تفاصيل الحياة المعاصرة. تشعرنا أنه كان من الخطأ أن تعيش حتى اللحظة لتشهد هذا الانحطاط والتخلف. وحين تشاهد أمي شعري المسترسل الطويل الذي تركته لعام بلا رقيب، تطلب مني أن تسكب عليه السمن البري مثلما كان في (جمة) الرجال ذات زمن قروسطي، وعلى النقيض تخفي في حمامها أجود أنواع الشامبو وصابون الأيادي الناعمة. تواصل والدتي حكاياتها مع كل الحكايات وآماسي الشعر وحين تسقط كلمة واحدة من صدر بيت شعر شعبي من عصورها الوسطى تقول بحزم مشوب بالقلق: "يا ولدي ما به حبوب للذاكرة؟" لكنها لا تطلب هذه الحبة السحرية عندما يختلط عليها الأمر من أسماء أحفادها الصغار وهل ذاك هو – خلدون – أم أنه – محمد - وحتى حين (نقولب) لوالدتي طقوس العصور الوسطى في إناء حديث تعود بنا مباشرة إلى فوارق النكهة والطعم. سمن اليوم لم يعد كما الأمس لأن الأبقار لم تعد تأكل القضب. خبز اليوم تحرقه المطاحن الكهربائية فلم يعد مثل خبز الرحى المنقرض. لحوم هذه الأيام بلا طعم لأن الأغنام أصبحت تأكل الخبز والأرز مثل البشر. طبول السمرة لا تطرب مثل دندنة التنكة. فرحة المواليد الجدد لأولادها وبناتها تقتلها أسماء الحداثة لأن – شاليمار – ليست بعذوبة – مشرية – ولأن – عبدالإله – فلسفة لا داعي لها للوصول إلى مسمى – عبدالله – والخلاصة أن والدتي مثل كل الأمم التي تعيش على أمجاد خلت: تنظر دائماً إلى الوراء وتظن أن الأمس قادم غداً لا محالة. ودعتها لأكتب هذا المقال وأنا أتمتم ببيت من الشعر لمساعد الرشيدي "يمّه كبرتي وصرتي أجمل من العام". أخالطه بالعمد بأشياء من تراتيل (بن عشقه). لقد كسرت أمي في داخلي بعض حدة الحداثة.