يعيش الشاعر رهان التجديد والتجاوز. التجربة التي نعرف نقطة بدايتها ومنعرج تحوّلاتها ومحطّات غناها وامتلائها، لكنها أبداً تظلّ محتفظةً بخميرتها الأولى وبذورها الكامنة؛ سرّ الغواية الذي لا يقنع؛ شفرة الأحلام التي لا تصدأ مع الأيام لكنها تزداد مضاءً وتفتح مسالك للعمل تطفر بالمفاجآت على غير توقّع وبالصدمات العميقة تأتي بها لحظةُ الكشفِ والاختبار.

هكذا يحتفظ الشاعر بالوعد المؤجّل. تحتفظ الكتابةُ بالأمل أمامها في مسافةٍ يطيبُ لها ألا تقترب منها، وبمقدار هذه المسافة تندلع شُهُبُ التحريض وتغزُرُ النّداءات تحثّ التجربةَ وتصقل الأدوات. ثمّة إمكانيّات لم تزل مخبوءة، وينابيع تنتظر صبرَ المعول وعرقَ الحفّار.

كم محطة عبر بها نصّ الشاعر، وخلناها أجمل المحطات؟..

كم ذروة بلَغَها وزيّنَ لنا الظّن أنّها القفلُ الأخير في التجربة؟..

كم هي المساحات التي انفتحت لاستضافة نصّ الشاعر تغنيه ويغتني بها؛ من المسرح إلى التشكيل والتصوير والخط.. إلى الموسيقى والغناء والإنشاد.. مساحات تتعالق فيها الفنون وثريّا النص هي العتبة والعنوان؛ الموئِل الذي يسكنُهُ قلقُ الانشطار والانشعاب إلى أجسادٍ وأرواح؛ يصطفي ويتعدّد.. يتبلور وينتشر. فعلُ تسييلٍ جهتُهُ البحر والنيران. لا متّكأ ولا مرفأ. عضلةُ التجديف لا تتوقف، والحطبُ الذي يسعّر لا ينفد.

هذا العامِلُ في مختبر النّص؛ الكادِحُ في حقل الكتابة. لا يوقفُهُ عُمْرٌ ولا تعتقلُهُ تجربة. رهانٌ على المطلق. أفُقٌ منذور للولادات. قابِلَةٌ ترتجلُ ولا تسمّي، لا يشغلُها قيدُ الاسم ولا تبحث عن رسن.

في الحريّةِ كان العمل ولمشتهى الحواسّ انطلقتْ اليد في البياض تخطّ وتدوّن.. تعتّق الورقةَ تعيدُ إليها ذاكرةَ الغياب وتلحمُها بالحاضر. اليدُ تقرأ هناك/ هنا؛ تقلب وتقلّب وتغلِب. شظايا منثورة. فسيفساء تلمع ينتظمُها سياقٌ فتتبدّى كما لم تكن. يجدل التاريخَ والأسطورة، وينهضُ النصُّ لا يبالي إلا بحقيقتِهِ؛ يتطابَق مع سيرةِ الإبداع وحدَها، ويحفر مجرى هو بابُهُ الخاص نزدحمُ عليه بشمعةِ التأويل ونستعين بالإصغاء وبما يطيش من بروق الحدس.

هذا "الصلب كما المرمر؛ النافذ كما الضباب" يندُّ عن التعيين، ولا خرائط تحيط بإحداثيّات غاباته. المخيّلة التي تتدفّق بكل ما فيها من تلقائيّة وقدرةٍ على عبور ما هو مؤطَّر وجاهز؛ تتدفّق وتندفع لكنها في العمق تستجيب لتدبير تراكُم التجربة وفتوحاتها السابقة، حيث نعثر على التناغم الذي يحيل على بناء متماسك هو الشخصيّة ذاتها؛ التفرّد الذي مهما تعددت طبقاتُ تعبيرِه فإنه يبقى ماثِلاً في قِوام التجربة وجزءاً من نسيج الحواس.

الحواس تلك الهبة التي أراد لنا قاسم حدّاد أن نختبرَ بها شعره، وأن نغرسَ أعضاءَنا فيما هو أبعد من الكلمة وأبعد ممّا تشير إليه العين.

الضوءُ السريُّ يفيض من مختبر قاسم حدّاد. تلك أحلامه.. تلك إشراقاتُه.