الدراسات الاستطلاعية مدخل طبيعي وموضوعي لمعرفة رأي الناس وقياس إقبالهم أو رفضهم للأفكار والقضايا والخدمات المقدمة لهم. وهي من المعايير التي يمكن الاطمئنان إليها في تحديد موقف المجتمع مما يجري حوله بدلا من الاستناد إلى الآراء الفردية والاجتهادات الانطباعية التي تعتمد على الخبرات الخاصة، ولا تعبر عن مزاج وموقف المجموع وبالتالي لا تقود إلى رأي مؤسس على حقائق، ولا تساعد المسؤولين في الأجهزة المختلفة على معرفة رأي المستفيدين من النشاطات التي يشرفون عليها.. ومن هنا تأتي أهمية الدراسات التي يقوم بها مركز الملك عبدالعزيز للحوار الوطني، التي تدور حول ثقافة المجتمع وقضايا الشباب الواقع والتطلعات وقضايا التعليم العام وثقافة وأخلاقيات العمل. وكان آخر الدراسات التي أعدها هذا المركز هي "واقع الإعلام وسبل تطويره من وجهة نظر المجتمع". والحقيقة أن الإعلام المحلي كان واحدا من الحقول التي يدور حولها النقاش والحوار ما بين ناقد ناقم لا يرى فيه فائدة ولا تأثيرا وبين مؤيد متحمس لا يبصر فيه عيوبا ولا يعترف له بأخطاء. وتأتي قيمة هذه الدراسة لاعتبارين: أهمية الموضوع الذي تعالجه وحساسيته وارتباطه بالتنمية في مفهمومها العام، ولموثوقية الجهة معدة الدراسة وحياديتها ومرجعيتها التي ليست موضع تشكيك في الوسائل والأهداف.

تقول الدراسة إن الإعلام المرئي يأتي في المرتبة الأولى من حيث المتابعة، يليه الإعلام الإلكتروني ثم يأتي الإعلام المطبوع وتضع في المرتبة الرابعة الإعلام المسموع. وتشير إلى أن السعوديين يتابعون الإعلام العربي المرئي بالدرجة الأولى ثم الإعلام الإلكتروني المحلي، وفي المرتبة الثالثة من اهتمامهم يأتي الإعلام الإلكتروني العربي، بينما يحتل الإعلام المحلي المطبوع المرتبة الرابعة، يليه في المرتبة الخامسة الإعلام المرئي المحلي ثم يجيء الإعلام المحلي المسموع في المرتبة السادسة. وتؤكد الدراسة أن 50% من المستطلعين يرون أن محتوى الإعلام المحلي (المرئي والمسموع) مواكب للأحداث والتطورات العالمية في حين يرى 33% منهم أن محتوى الإعلام المحلي يجاري محتوى الإعلام في القنوات الفضائية الأخرى. وقال 62% من العينة إنهم يتابعون الصحف الإلكترونية أكثر من الصحف الورقية وإن 86% منهم يلجؤون إلى الإعلام الإلكتروني إذا رغبوا في استرجاع معلومات سابقة أكثر من لجوئهم إلى وسائل الإعلام الأخرى. وقالت الدراسة إن 60% من السعوديين يرون أن الإعلام المحلي له تأثير إيجابي على ثقافة المجتمع، ويرى 62% أن له دورا في تعزيز ثقافة الحوار داخل المجتمع، فيما يعتقد 57% أن الإعلام المحلي المطبوع يطرح القضايا الاجتماعية بفعالية أكثر من الإعلام المحلي المرئي. (الوطن الأربعاء 11 أبريل 2012).

هذه الدراسة، وغيرها من الدراسات التي تعنى برصد اتجاهات متابعة الجمهور لوسائل الإعلام وتفاعله معها، تؤكد رأيا بات سائدا يقول: إن الإعلام الجديد، بوسائله ومحتواه، يتقدم على حساب الإعلام التقليدي وفي كل يوم يكسب "مساحة من أرض المعركة" ويستدرج طيفا جديدا من متابعي الوسائل التقليدية. وأن التحدي الحقيقي والمصيري أمام هذا الأخير هو قدرته على التفاعل مع الواقع والاستجابة لرغبات الجمهور الجديد ووسائل التواصل معه ومتطلبات الظرف.

لكن المهم في هذه الدراسة والذي لفت نظري واستدعى هذه السطور ليس الحديث عن "الصراع" بين وسائل الإعلام الجديدة والقديمة، رغم أهميته للمتابع مثلي، بل المهم هو أن المجتمع السعودي يتابع الإعلام الخارجي أكثر من متابعته لإعلام بلده، ويهتم بالإعلام الخاص أكثر من اهتمامه بالإعلام الرسمي، وما يتبع هذا من نتائج بالغة الأهمية. والسؤال بل الأسئلة: ماذا يعني هذا؟ وما هي مخاطره وأضراره على سلامة المجتمع وثقافته وتوجهاته؟ ولماذا ينصرف المشاهد السعودي عن تلفزيون بلاده ليتابع قنوات خارج الحدود؟ ماذا يجد في الخارج ولا يجده في الداخل؟ لماذا لم ينجح الإعلام المحلي في الاحتفاظ بجمهوره وقد توفرت له كل الإمكانات المادية؟

هذه الاسئلة وغيرها كثير هي التي تفجرها هذه الدراسة وهي التي تستدعي مواجهة الحقائق وفحص الأسباب إذا كنا نريد إجابات موضوعية تسهم في تصحيح المسار، وتعين على تقويم الاعوجاج حتى نستعيد الحضور الإعلامي المؤثر في مجتمعنا بكل أطيافه واهتماماتها. فمن المعروف أن المعركة الإعلامية تدور على ساحة إقناع الجمهور وتقديم ما "يغريه" بالمتابعة ويربطه بمضمون ما يطرحه من قضايا وأفكار ورؤى. وقد يتبادر إلى بعض الأذهان أن كلمة "يغريه" تحمل مفاهيم تخالف القيم والأخلاق وتوحي بأن من أسباب انصراف الجمهور عن الإعلام المحلي إلى غيره يرجع في بعضه إلى هذه النزعة التي تريد الخروج من ضوابط المجتمع ومبادئه، وأخشى أن أقول إن هذا الفهم لا يساعد على "فحص" الأسباب الحقيقية ولا يؤدي إلى الاستفادة من الدراسات العلمية التي ترصد التغييرات الاجتماعية.

أعتقد أن هذه الدراسة التي أعدها المركز تستوجب الاهتمام من القائمين على الإعلام لمعرفة أين يقف إعلامنا من القضايا المطروحة على المجتمع، وماذا يقدم لشريحة الشباب المتصلة بالإعلام الجديد، وهل يستجيب الخطاب المطروح لما يشغل هذا الجيل الذي تتنازعه التيارات والأحداث مع احترام عقله وتقدير رأيه؟ المسألة مهمة في رأيي فهل تلقى بعض العناية؟