الشاعر كائن جميل، و"حبُّوب"، و"ياحليله"، ولكنه ـ لأنه جميع ما ذكر ـ لا يصلح لتدبير شؤون الحياة الأخرى كالسياسة، والعسكرية، وتوصيل بناته للمدرسة، و"الدُّوِجَة" بأمهن في الأسواق!

وقد استبعدهم الزميل/ "أفلاطون" من "جمهوريته الفاضلة"؛ لأنهم يشوهون الواقع: فيظهرونه أجمل مما هو عندما تصفو أمزجتهم، وأقبح مما هو عندما تتعكر، وما أسرع، وما أسهل، وما أكثر، ما تتعكر أمزجتهم!

ولا تذهبوا لـ"شكسبير"، الذي يعدونه أكبر مزوِّر للتاريخ هنااااااك بعييييد، فلدينا الزميل الكذاذيبي الأكبر/ "أبو الطيب المتنبي"، الذي جعل من زعيم قبيلةٍ صغيرةٍ بطلا أسطورياً، في تسع سنين لن تسمع عن "سيف الدولة" شيئاً يذكر بعدها! فلما تعكر مزاجه تركه قائلاً:

إذا ترحَّلْتَ عن قومٍ وقد قدروا * أن لا تفارِقَهم: فالراحلون هُمُ!

وثارت برأسه "أم الشعراء" ـ اسم الله علينا ـ فقال:

حَبَبْتُك قلبي قبل حُبِّك من نأى * وقد كان غدَّاراً فكن أنتَ وافيا!

وأعلمُ أن البينَ يُشْكِيكَ بعده * فلستَ فؤادي إن رأيتُك شاكيا!

ويضيف و"أم الشعراء" ترقص:

ولكنَّ بـ"الفُسْطاطِ" بحراً أزرتُه * حياتي/ ونصحي/ والهوى/ والقوافيا!

قواصدَ "كافورٍ" تواركَ غيره * ومن قصدَ البحرَ استقلَّ السواقيا!

فجاءت بنا "إنسانَ عينِ" زمانه * وخلَّتْ "بياضاً" خلفها ومآقيا!

هذا هو "كافور الإخشيدي" قبل أن "يقلب" عليه زميلنا/ "الكذاذيبي"! والتاريخ يشهد أنه ـ وهو المعروف بالأستاذ قبل "المعلم/ حسن شحاتة" ـ واحدٌ من أحكم، وأذكى، وأقوى، وأعدل من حكم "مصر المحروسة"! ولهذا يغفر للزميل مبالغته في المدح؛ لأن "الممدوح" يستاهل! ولكنه ما لبث أن "قلب" عليه، فانحدر من التشبيه الفني الرائع بـ"إنسان العين" ـ كونه أسود ـ إلى عنصرية بغيضةٍ، يندى لها جبين الفكر العربي كله، وتزكم أنف من يقرؤها!

فهل تلوم "أفلاطون" ـ وهو شاعر أيضاً ـ إن أشهر لهم الكرت الأحمر؟

أما "الغذامي" فيضع يده على الداء العضال المزمن في الثقافة العربية، ويسميه بـ"الشعرنة": أي إن مرض الشعراء تسرَّب إلى بقية المجالات ـ تسربَ حي "الغدير" الشهير ـ فصار المسؤول الإداري، والفقيه الواعظ، والطبيب، والصانع ، كلهم مزاجيين كالشعراء: "حبٌّ يودِّيهم، وكُرْهٌ يجيبهم"!

وأدان "الغذامي" الشعراءَ، كما يدين المحقق أولَّ من رآه يحمل "السلاح"، ويداه ملطختان بالدماء! ولكن السلاح هنا هو: "الشعر الجميل"، وهو بيد الشاعر صناعةً، وبيد "الممدوح" اقتناءً، وبيد الجماهير طرباً وإعجاباً؛ فمن المسؤول إذن؟ هذا إذا سلمنا بأن سبب "الشعرنة" هو: انتقال "العِلَّة" من الشعراء إلى الآخرين وليس العكس؛ أي: إن "الآخرين" هم الذين اتَّبعوا الشعراء، وصدق الله {والشعراء يتَّبِعُهم الغاوون}: على وزن "يَفْتَعِلُهُم"، لا "يَتْبَعُهُم" على وزن "يَفْعَلُهُم"!