كم هي كثيرة تلك الدراسات والبحوث والتحليلات النفسية والرسائل العلمية والأطروحات والمساءلات النقدية، التي تتحدث عن تجربة بدر شاكر السياب، ودوره في القصيدة العربية، وما ينتظمه إبداعه من دلالات واسعة وبناءات فنية ومدارات متجددة، وما أضافته التجربة السيابية للشعر العربي الحديث، ومن بين هذا الركام الضخم كانت هناك التفاتات تتعلق بالسياب ذاته بوصفه "كائناً إنسانياً يتمتع بخصوصيات خَلقية، جعلت له سمتاً خاصاً في علاقته بالمرأة، إذ حرم من عطف الأمومة وحنانها بعد أن ذاق منه القليل وهو لم يزل في طفولته الغضة، ثم ما لبث أن فقد هذا الحضن الدافىء بموت أمه وجدته وهو لم يتجاوز السادسة من عمره"، "أماه ليتك لم تغيبي خلف سور من حجار لا باب فيه لكي أدق ولا نوافذ في الجدار" كتب السياب عن نفسه قائلاً: "فقدت أمي وما زلت طفلا صغيراً، فنشأت محروماً من عطف المرأة وحنانها، وكانت حياتي وما تزال كلها بحثاً عمن تسد هذا الفراغ، وكان عمري انتظاراً للمرأة المنشودة، وكان حلمي في الحياة أن يكون لي بيت أجد فيه الراحة والطمأنينة، وكنت أشعر أنني لن أعيش طويلا".
إن المتتبع للحالة الشعورية عند السياب يلمس ذلك الانكسار في إطاره النفسي والإخفاق العميق في الحب، حيث يستدعي مفردات لغوية سالبة كما يقول الدكتور عبدالرحمن عبدالسلام مثل: "السهاد، الشحوب، البين، القلب المكلوم، الأماني الضائعة، الآهات، الشجن، القسوة، الموت". إن ما كان يخض دم السياب ويوقد الضجر البائس في عظامه أنه لم يكن وسيماً، وقد عاش تحت وطأة هذا الشعور الحارق والألم الممض، يقول محمد الماغوط: "كل ما فيه كان كبيراً، قلبه، موهبته، رأسه، أذناه، ما عدا جسمه، كان المسكين كله رأس". ويقول إحسان عباس: "نحيل كأنه قصبة، رأسه المستدير كحبة الحنظل، وعلى جانبيّ الرأس أذنان كبيرتان، تنظر إلى وجهه الحنطي فتدرك أن هناك اضطراباً في التناسب بين الفك السفلي الذي يقف عند الذقن كأنه بقية علامة استفهام مبتورة وبين الوجنتين الناتئتين". إلى آخر ذلك الوصف الدقيق القاسي الذي يحرم بدراً من أدنى مقومات الوسامة، "وكان بدر يدرك ذلك جيداً مما خلق عقدة نقص في أعماقه، جعلته يعتقد أن بنيانه الجسدي هو السبب في أن تغلق العذارى قلوبهن، ويقفن صامتات إزاء صرخات حبه" نلحظ بين رفات أحلام السياب وقلبه الجريح ورود أسماء: وفيقة، هالة، لبيبة، لميعة، لمياء، ناهدة، أليس، حيث يتوق لحبهن لكنهن كن يشفقن عليه حيث يقول: "ومن عادتي نكران ماضي الذي كانا. ولكن كل من أحببت قبلك ما أحبوني ولا عطفوا عليّ عشقت سبعاً كن أحياناً ترف شعورهن عليّ لتحملني إلى الصين".