كتاب الدكتور علي الراعي في «الكوميديا المرتجلة في المسرح ‏المصري»، كتاب مهم ظهر في أواخر 1968.‏

ولعله أهم كتاب ظهر عن المسرح المصري وتاريخه منذ دراسات ‏الدكتور محمد يوسف نجم، ومنذ مذكرات بعض أقطاب المسرح ‏المصري الأوائل كالسيدة روز اليوسف، وقد كان من الصدف ‏الجميلة أن يظهر كتاب الدكتور علي الراعي في وقت متقارب مع ‏ظهور مذكرات المخرج العتيد فتوح نشاطي عن تجاربه المسرحية ‏الأولى أيام تلمذته في باريس (كتاب الفنان في باريس)، فمحصول عام ‏‏1968 إذن محصول قيم فيما يتصل بتاريخ المسرح، ولم يبق إلا أن ‏تتعاقد مؤسسة المسرح مع الأستاذ فتوح نشاطي ومع سواه من ‏المخضرمين، لتستكتبهم مذكراتهم أو ذكرياتهم عن ذلك الماضي ‏القريب البعيد معا قبل أن تطمسه يد النسيان. والحق أن كتاب الدكتور ‏علي الراعي بما جاء فيه من تاريخ الحركة الكوميديا المرتجلة في ‏مصر منذ 1900 أو نحوها، كان يمكن أن يكون مثل كتاب فتوح ‏نشاطي مجرد جزء من أرشيف مصر المسرحي، هذا الذي نتحدث ‏عنه، أو جزء من أرشيفها الثقافي بوجه عام، يسجل وجها من وجوه ‏حياتنا الماضية بقدرة الباحث الذي يعرف كيف يستعيض عن ذاكرته ‏الشخصية بذاكرة التاريخ. ولو كان كذلك لكفاه نفعا، ولكم أتمنى أن ‏يقتدي المخضرمون من الكتاب والفنانين والمثقفين وأعلام السياسة ‏والاجتماع والاقتصاد كما يفعله الأستاذ حافظ محمود على صفحات ‏جريدة «الجمهورية، بتدوين ذكرياته الشخصية البعيدة عمن خالطهم ‏من أعلام الصحافة المصرية، لكم أتمنى أن يتفرغ فكري أباظة ومحمد ‏التابعي وأحمد الصاوي محمد ومحمد زكي عبدالقادر ويوسف وهبي ‏وزكي طليمات، وعشرات غيرهم من أعلام الرجال والنساء الذين ‏عاصروا نبض الحياة في العشرينات والثلاثينات والأربعينات، لكتابة ‏ذكرياتهم الخاصة عن رجالات تلك الحقبة وأحداثها، ليساعدوا ذاكرة ‏التاريخ على استيعاب ما كان يجري حقا بين الثورتين. ‏

ولكن كتاب الدكتور علي الراعي عن «الكوميديا المرتجلة في ‏المسرح المصري» أكثر من صفحات في أرشيف المسرح المصري. ‏فهو أيضا دعوة حارة إلى أحياء الكوميديا المرتجلة في المسرح ‏المصري، بل المسرح المرتجل في عمومه، ليس فقط لأنه بعض ‏تراثنا، ولكن أيضا لأنه يتماشى مع آخر صيحة في عالم الفن المسرحي ‏على النطاق الإنساني، المتمثلة في حركة «المسرح الحي»، وهو ‏صرخة احتجاج من الفنان المعاصر في أوروبا وأمريكا على النص ‏المكتوب وعلى نيره الثقيل الذي قصم ظهر الفن المسرحي وعزله ‏عن الحياة في عرف أولئك المحتجبين.‏


ولقد توافق الدكتور علي الراعي على دعوته أو لا توافقه -أنا ‏شخصيا لا أوافقه- ولكن لا يسعك إلا أن تعجب بصبره في جمع ما ‏جمع من نصوص المسرح المصري المرتجل، رغم سذاجة كثير منها، ‏وبشدة التفاته إلى ما فيه من خيوط رئيسية، كما لا يسعك إلا أن تعجب ‏بقوة دفاعه كمحام عن قضية المسرح المرتجل، رغم أنه في اعتقادي ‏يدافع عن قضية خاسرة أو ينبغي أن تخسر. ويؤصل علي الراعي ‏المسرح المرتجل في مصر منذ أيام يعقوب صنوع، أي منذ فتح ‏يعقوب صنوع «أبو نضارة» مسرحه في

‏1870 حتى أغلقه بعد عامين من النشاط الدفاق في 1872. ويعقوب ‏صنوع كان صاحب نصوص مسرحيات عديدة مكتوبة «موليير ‏مصر» و«البورصة» و«العليل» و«الضرتين» و«أبوريدة وكعب ‏الخير» و«الصداقة» وغندور مصر «وصفصف» و«الأميرة ‏الإسكندرانية»، وتعريف علي الراعي للمسرح المرتجل أنه يقوم في ‏المقام الأول على «نص مكتوب قابل للتغير حسب الأحوال، وممثلين ‏يؤدون هذا النص على الخشبة وهم مهيؤون نفسيا لتقبل أي تغيير ‏طارئ عليه، ومؤلف يختبئ مرتين وظهر مرة، فيجري إذ ذاك نوع ‏طريف من التأليف، هو التأليف الفوري، ثم جمهور لا يؤمن قط بأن ‏دوره هو مجرد الاستمتاع السلبي بما يجري أمامه، وإنما يرى أن ‏دوره هو أن يكون المتفرج اليقظ الذكي الذي يتابع وينقد ويحكم».‏

بهذه المقاييس استعرض علي الراعي بعض ما كان يجري أثناء ‏عرض مسرحيات يعقوب صنوع من اشتراك بعض أفراد الجمهور ‏في التعليق على ما يحدث، أو على ما يقال على خشبة المسرح، سواء ‏بالملاحظات الأخلاقية أو بالقفش أو بالتنكيت أو بالدخول في قافية مع ‏الممثلين، أو من اعتراض بعض أفراد الجمهور عل مجرى الأحداث ‏في المسرحية، وتدخلهم عند المؤلف أثناء العرض لتغيير نهايتها، أو ‏من أخطاء مقصودة أو عفوية يتورط فيها الممثلون فتعجب الجمهور ‏فيطالب بإدماجها في نص المسرحية، أو في سقوط ذلك الحاجز ‏الشفاف بين الحقيقة والخيال عند بعض المتفرجين بما يجعلهم ينسون ‏أنفسهم، ويهرعون إلى خشبة المسرح لإنقاذ ملهوف أو لمنع جريمة، ‏وهي حالة نسي الدكتور الراعي أن يدرجها بين أركان المسرح ‏المرتجل، رغم أنه ساق عليها الشواهد، وهي العكس على خط مستقيم ‏من حالة اليقظة والمشاركة الواعية من الجمهور في تأليف المسرحية.‏