دائما يقبع الفنار على حدود الماء في علو شامخ يحمل فوق رأسه عبئا زجاجيا يلمع كل مساء ليبث الفرحة والأمل في نفوس البحارة وقباطنة السفن، فرحة بالنجاة وأملاً في الوصول للهدف.

فهل يوجد لحياتنا وطموحاتنا فنارات؟

حقيقة، العالم مخيف، والطموحات عديدة ومشروعات العالم الجديد لا تهدأ، لم يعد لدينا فنارات سوى هناك.. بعيداً على الشطآن، هجرت العالم وتعالت على الضفاف، إما لتصد المياه العاتية أو هجراً وتسللاً لتطيل عنقها وتستطلع ما يستجد من أمور في العالم في الضفاف المقابلة.

والحقيقة.. لا هذا ولا ذاك، إنه هروب من عالم الإنسان لما ارتكبه في حق نفسه من أخطاء . فما وضعت الفنارات؟ إلا لترشد من يمخر عباب الماء ويأمل في الوصول والاقتراب طلباً للنصح والدليل حاملا خارطته في يده.

فيما مضى كانت جدتي تقول لي بأسلوب الجدات الناصحات" :يا بنيتي ..النصيحة كانت تشترى" أما الأن أصبحت ثقيلة وثقيل صاحبها.

ولعل جدتي ـ رحمها الله ـ كانت تستشرف المستقبل وما سيصل إليه العالم في الألفية الثالثة، وأن الإنسان سيسبح عكس التيار كأسماك السلمون مع الفارق، حيث إن أسماك السلمون تسبح ضد التيار مضحية بنفسها ومتحملة أهوال المخاطر، تموت معظمها لتضع بيضها في شطآن هادئة وآمنة لجيل جديد، أما الفرد منا في هذه الأيام فيسبح ضد التيار لكبح النفس المطمئنة الهادئة وإطلاق العنان للنفس الأمارة بالسوء أو مايسمى بـ"الهوى"، هكذا قسم الدين الذات البشرية حيث مفهوم الأنفس، لنعرف ذواتنا ونطلق العنان لصالحها ونكبح طالحها، فهناك النفس المطمئنة والنفس الراضية والنفس اللوامة والنفس الأمارة بالسوء وقد وجدنا هذا التقسيم أيضا لدى علماء النفس مثل " "سيجموند فرويد" وتلميذه "يونج" حيث توصلا إلى أن الذات البشرية شديدة التعقيد ولها عدة أقسام (الأنا، وهي السوية، والأنا الأعلى وهي الضمير المعاقب على ارتكاب الخطأ، والهوى، التي تدعو للفجور والتمرد) مما يتطلب كبحها وتأديبها إن أخطأت. فقد رأيت إحدى الصديقات تصلي طيلة الليل حتى الصباح فختمت سبعة أجزاء من القرآن الكريم في ليلتها هذه وفي قيامها هذا، وحين سألتها أجابت: لأنها تثاقلت ولم تصل تهجد الليلة السابقة، ففعلت ذلك تأديباً لنفسها المتمردة .إنها تروضها كالحصان الجامح، فعرفت حينها أن السلف الصالح كانوا يروضون أنفسهم ويؤدبونها لتستكين وتفسح المجال للنفس المطمئنة فتؤتي أكلها لصاحبها وبالتالي المجتمع والجيل والدولة وقبل كل ذلك لله عز وجل. من منا عاقب نفسه إذا أخطأت؟ من منا وضع نفسه في غرفة مظلمة لمدة شهر كامل لأنه نظر بشهوة لامرأة عابرة كما فعل أحد الأتقياء؟ من منا حرم نفسه من الأكل يوماً كاملا لأنه أكل وجاره جائع؟ وهذه أصغر الأخطاء.

إننا نتباهى بالبذخ وليالي العشرة والعشرين، وهناك الكثير من المحتاجين في أطراف المجتمع، ونركب السيارات الفارهة بينما هناك لدينا من يركب الدابة حتى الآن، وشبابنا يقضون الساعات أمام النت ولعنة "البلوتوث" مع العري والمساخر رغم أن الدين يقول إن من ينظر لهذه الأمور يحرم من النظر إلى وجه الله تعالى يوم القيامة فيفقد لذة لا تضاهيها لذة على الإطلاق.

ماذا حدث لنا ونحن أحفاد الفاتحين والمصلحين والداعين لمنطق الحق والخير والجمال؟

من منا وضع لنفسه فنارا، يضعه هو هدفه، إذ يحتم على نفسه الوصول إليه لا محالة، فالسفينة لا تقلع من مكانها إلا وهى تضع نصب عينها فنارا بعينه وليس أي فنار، فالفنارات كثر وإن لم تحدد فنارها ضاعت في مفازات البحار، ثم تأتي المرحلة التي تليها وهي تحديد تلك النقطة عبر خريطة تحملها إلى هناك، وتشق عباب المياه عبر تحديات الأمواج العاتية، وفى نهاية الأمر تصل إلى منتهاها، إنه تحديد الهدف ثم السعي إليه دون هوادة أو انثناء مهما كانت الصعاب حتما سيصل هذا الإنسان.. إلى فناره مهما كانت التحديات، ومن هنا وجب على كل تحديد فناره ثم الإصرار على الوصول إليه مع حمل الخريطة التى تحيله بطبيعة الحال إلى محطات ونقاط يتوجب المرور بها.. مشقة يتحملها الفرد في سبيل الوصول في نهاية الطاف. إننا في زمن تعددت فيه الفنارات كل يبحث عن النجاة من البحر الهادر، حيث لا نصح ولا مشورة في زمن تختلط فيه القارات والمفاهيم والأطر الوافدة والمستوفدة والعادات والتقاليد البائدة منها والباقية متراصين في صفوف متزاحمة أمامه، وهو الهارب من أخطائهم، حينها يعطي العنان لموج عات يرتفع كالطود العظيم – بعيدا عن خارطة أهدانا الله ورسوله الكريم إياها، كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم ذلك خير دليل لخير فنار في الدنيا وفي الآخرة، وما أحوج شبابنا اليوم لدليل يأخذ بيدهم إلى بر أمان عبر محيط هادر قد يغمر البشر بشلالاته المتعاقبة إذا ما تلاحق أوار الطيش، فلا يبقى سوى أجساد غارقة وأعين شاخصة ووجوه شاحبة تقطر ندماً، فتتلاحق الأمواج فوقهم تأديباً لذواتهم الخطاءة دائماً، مع الاعتذار الشديد للسيد طوفان "تسو نامي".