في الماضي البعيد جداً كانت الأسر ترسل أبناءها من الذكور للبادية لتعلم اللغة العربية الفصحى، واكتساب المهارات المختلفة كمهارات الاتصال، والخطابة، ومقابلة الآخرين، وغيرها من المهارات التي يفتقر لها كثير من جيل اليوم، وفي أثناء وجودهم بالبادية يقومون بالعمل، ويحصلون على أجور مقابل ذلك حتى وإن كانت متدنية بشكل كبير، لكن الهدف الأول والأساس هو تعلم اللغة، وغيرها من المهارات الحياتية الأخرى، أما اليوم فنحن نرسل أبناءنا للغوص في أعماق الشبكة العنكبوتية وبدون حسيب، أو رقيب، ولنا أن نتخيل ماذا ستكون عليه النتائج؟ وماذا سيتعلمون من هذه التقنية ومن نتاجاتها المختلفة، والمتنوعة؟ خاصة إذا لم ُيحسن استخدامها، وتتم المراقبة للأبناء بشكل كبير؛ فهي مصدر خطير جداً لتعلم الأشياء غير المرغوبة، ورافد قد لا يكون مناسبا لتنمية ثقافة أبنائنا، وبذلك فهي قد تكون مصدرا آخر غير مناسب لتربية الجيل الجديد، أما المصدر الآخر لتربيته وتعلمه فيتمثل في سلوكيات الآباء، وتصرفاتهم، فالسلوكيات الإيجابية شيء محمود، ومطلوب، أما السلوكيات السلبية فهي موضوع نقاشنا في هذا المقال بالدرجة الأولى، وقد يُنظر لهذه السلوكيات كقدوة من قبل هؤلاء الأطفال، ويعملون على تطبيقها في مواقف حياتية مشابهة لمواقف آبائهم، والأمثلة عديدة، وقد يكون من المناسب مناقشة بعضها في ثنايا هذا المقال لكي نتعلم منها، وندرك ما قد يترتب عليها في المستقبل، ولكي لا نقع فيها حتى ولو كان ذلك بحسن نية، أو من دون قصد.
الموقف، أو المثال الأول يمكن تلخيصه فيما يلي: عندما يشجع الأب ابنه على الكذب من خلال تصرف الأب في بعض المواقف، ويحدث ذلك عندما يطلب من ابنه أن يرد على اتصال هاتفي من شخص لا يريد الأب الحديث معه، ويوجه ابنه بأن يبلغ الطرف الآخر على الهاتف بأن والده غير موجود، أو عندما يطرق الباب شخص لا يريد الأب مقابلته فيطلب الأب من ابنه أن يكذب بالنيابة عنه بأنه غير موجود، وهذا تصرف تربوي غير سليم، وقد يكون غير مقصود، ولا بد من التنبه له، وعدم الوقوع فيه، وقد يعتقد الابن بأن ذلك سلوك طبيعي، ولا يترتب عليه أي شيء، ومن ثم من السهل أن يتبعه، أو يطبقه هو في المستقبل.
المثال الآخر الذي يقع فيه كثير منا يتمثل في سلوك آخر قد يقع فيه كثير من الآباء عندما يقود سيارته في إحدى الطرق ويقوم برمي مخلفات من سيارته في أثناء القيادة في الشارع وكأنه الوحيد في هذا الطريق، ولا يهتم بمن يشاركه فيه، وقد يترتب على ذلك إلحاق الأذى بالآخرين، ومع ذلك لا يعنيه الأمر، ولا يهتم به، مع أن استخدام الطريق له آدابه، وسلوكياته التي يجب أن نحترمها، بل نلتزم بها، ونطبقها بشكل كامل، ولنا أن نتصور مدى التزام الأبناء بذلك إذا كان الآباء غير ملتزمين بها، بل هو بذلك يخالف ما ورد بهذا الخصوص "إماطة الأذى عن الطريق صدقة"، وعندما يطبق أحد أفراد الأسرة السلوك نفسه، ويرمي بعض النفايات من السيارة، ويراه والده، فقد يستنكر هذا السلوك، وهنا أقول كما قال أبو الأسود الدؤلي في ميميته المشهورة:
لا تنه عن خلق وتأتي مثله عار عليك إذا فعلت عظيم.
الموقف الآخر الذي قد يظهر بين الحين والآخر هو عندما يريد الأب من ابنه الطالب في المرحلة الثانوية أن يقضي له مصلحة في أثناء اليوم الدراسي؛ فعندما يريد الابن الخروج من المدرسة يستأذن للخروج بحجة أنه مريض، ولا يستطيع أن يستمر في ذلك اليوم لمرضه وهو في الواقع سليم معافى، ولكن الأب أوحى لابنه بأن يلتمس عذرا للخروج، بل يقول له بطريقة غير مباشرة اكذب على المدرسة، وهنا أتساءل لماذا لا يشجع الأب ابنه على الصدق، وذكر الحقائق؟ وهذا أسلوب آخر من الأساليب التي ينتهجها بعض الآباء هداهم الله مع أبنائهم في تربيتهم، وسيتعود الابن على ذلك الأسلوب في كثير من مواقفه الحياتية، كما أن المعلم قد يوحي للطالب في حالة غيابه عن الاختبار لظرف ما أن يحضر له تقريرا طبيا حتى وإن كان غيابه بسبب آخر غير المرض لكي يقوم بإعادة الاختبار له، فكان المعلم يقول بطريقة غير مباشرة للطالب قم بالكذب، وتزوير تقرير طبي لكي أصدقك، وهو يعرف أن كل هذه الإجراءات غير صحيحة، فكيف ستكون نظرة الابن لأبيه، أو الطلب لمعلمه في مثل هذه الواقف؟ وهنا أرى أنه من الضروري أن يكون كل من الأب والأم، والمعلم قدوة حسنة لجميع أفراد الأسرة بشكل خاص، ولأفراد المجتمع بشكل عام في جميع سلوكياتهم وتصرفاتهم؛ لأن البيت والمدرسة هما الأكثر تأثيرا في سلوكيات الجيل الجديد للمجتمع.