عفا الله عن الأستاذ الإمام محمد عبده والدكتور طه حسين والأستاذ أحمد أمين، فكم ساقنا إعجابنا بهم، وهم أهل للإعجاب والتقدير، إلى أن نسلّم أنفسنا لما يعتقدونه، دون أن نتحقق مما يذهبون إليه، ومن ذلك أن هؤلاء الثلاثة اشتدوا في النكير على الجامع الأزهر، وعلى أسلوب التعليم فيه، حتى أسرفوا وجاوزوا القصد، وبلغ بهم أن اتخذوا الأزهر ورجاله سبيلا للسخرية والتندر، قال ذلك الإمام محمد عبده، في كلام له مشهور، والدكتور طه حسين في غير كتاب من كتبه، ولا سيما «الأيام»، ولم يترك الأستاذ أحمد أمين وسيلة للازدراء بالأزهر إلا اصطنعها، على نحو ما قرأنا في ترجمته الشخصية «حياتي». استهنا، كثيرا، بالأزهر، وكان اسمه دليل ثقافة أقل ما يقال عنها: إنها تقليدية، فإذا بالغنا في النقد، كِلْنا ألوانا من الصفات، كلها تهوينٌ بهذا الجامع الذي رعى علوم الإسلام زهاء ألف سنة، وحتى صارت كلمة «أزهري» موضع استهانة وتندر، مع أن خير ما في أولئك الثلاثة يؤول إلى الأزهر وكتبه، ولولا تلك الكتب والشروح والحواشي ما كان أحد منهم علما من أعلام الثقافة في دنيا العروبة والإسلام، بل إن أعلام الثقافة العربية، في عصرها الحاضر، أولئك الذين تخرجوا في كلية الآداب، أو دار العلوم، إنما هم حسنة من حسنات الأزهر؛ فإبراهيم بيومي مدكور، وشوقي ضيف، وتمام حسان، ومحمود الطناحي، إنما تلقوا تعليمهم العام في المعاهد الأزهرية، وتستطيع أن تسوق أسماء غير هؤلاء، وإنهم ليفخرون بأنهم اتصلوا، حينا من الزمان، بشيوخ الأزهر وكتبه وبرامجه، وأنهم اختلفوا إلى أروقته. وهل يستطيع أحدٌ من طلبة العلوم العربية والإسلامية أن ينكر فضل علماء الأزهر عليه؟ أو أن يمر، سريعا، بأسماء محمد محيي الدين عبد الحميد، والسيد أحمد صقر، ومحمد علي النجار، ومحمد عبد الخالق عضيمة، ومحمد عبد المنعم خفاجي، دون أن يقر للأزهر وأشياخه بالفضل والسبق؟

وأنا لا أنكر أن الأزهر خاض جولات من السجال، من أجل التغيير والترقي، وأن أساتذته ليسوا سواء، ولكننا نلقى ذلك في الجامعة المصرية، وفي دار العلوم، وفي غير معهد من معاهد العلم في كل ديار العروبة والإسلام، على أن محاولة الاقتراب من الأزهر، تدل على أن هذا المعهد الإسلامي الأكبر كان، ولا يزال، حلقة وصل بين الثقافة القديمة و الحديثة، فشيوخ الأزهر – مهما تدرعوا بالجبة والعمامة والقفطان – كثيرٌ منهم يجمعون الثقافة الحديثة إلى جوار القديمة، بل إنهم يجمعون تلكما الثقافتين دون أن تجور إحداهما على الأخرى، وتلقى من حماسة أحدهم أنه ينشط للمتون والشروح والحواشي نشاطه لكتاب حديث صدر في الفلسفة أو النقد، وأن الطالب الأزهري، حين يتصل بالكتب «الصفراء»، إنما يغذوه «نسغ» تلك الثقافة التي يتجهم لها خريجو كليات الآداب، لأن معرفتهم بتراثهم، يغلب عليها أنها لا تعدو القشور إلى اللباب، فغاب عنهم، حين غيبت عنهم تلك الثقافة، علم كثير، وحسبك أن تعرف للأزهر، ومن انتهج نهجه، معرفة أصيلة بمتون نجهلها كل الجهل، في المنطق، والنحو، والقراءات، والعقيدة، وما علمنا وما لم نعلم من كتبنا وعلومنا، حتى إذا اتصلنا، شيئا ما، بعلم الأزهر وكتبه وشيوخه أدركنا أنه فاتنا قدر كبير منها، وإن أردت بيانا لذلك فحسبك أن تقف على مؤلفات العلامة الشيخ حسن الشافعي في علم الكلام، والعلامة الشيخ محمد أبي موسى في البلاغة، وأعرف أن الشيخين إنما هما من حسنات الأزهر، وقس على ذلك شيوخا آخرين، عرفوا ثقافة الغرب حق المعرفة، إذ أموا جامعاته ، وأدركوا أن في الشروح والحواشي، وفي الكتب «الصفراء»، علما لا يسع أهل النظر التأخر عنه، فاتصلت، بسببهم، تلك الثقافة في أروقة الأزهر، أولا، ثم في غير جامعة ومعهد، في العالم الإسلامي ، حتى إذا أراد أولئك الذين يتندرون بالأزهر وعلومه قراءة نص من علومنا، لم يكادوا يحسنون قراءته، دع عنك تفسيره وتأويله، ذلك لأننا، لو تأملنا ألوانا مما راج في جامعاتنا أننا إنما نبدئ ونعيد كلمات مكرورة يقولها السالف ويكررها الخالف، ثم نزعم لأنفسنا أننا نحسن قراءة تراثنا، ونحن لا نعرف منه غير أسماء الكتب، وقد تغيم علينا تلك الأسماء، إلا ما ندر، وكان النادر قليلا.

ومن حسنات الأزهر، وما أكثرها! أنه لا يزال للتعليم المسجدي فيه قوته ونشاطه، وكأنما أرادت مشيخته أن تصل حاضرها بماضي عشرة قرون من الزمان، فلكل شيخ عمود، يحيط به الطلاب، يقرأ طالب المتن، في العقيدة، أو المنطق، أو النحو، أو البلاغة، ويشرح الشيخ مفردات المتن، وكأنك عدت قرونا، فالمتن هو المتن، والمكان هو المكان، وإن اختلف الشيخ والتلامذة والعصر، فإذا تحقق ما ترمي إليه تلك الدروس عرفت أنها لون يدل على «استمرار» العلوم العربية والإسلامية و«اتصالها»، حافظ عليها الأزهر، يوم فرطت فيها معاهد أخرى وجامعات.


* كاتب سعودي