في الميثولوجيا الصهيونية المعاصرة تحضر بقوة مقولة غولدا مائير، رئيسة وزراء إسرائيل سابقا، "فلسطين أرض بلا شعب لشعب بلا أرص". فالصراع إذا في جوهره، وبغض النظر عن الأهداف الأخرى المحرضة عليه هو اكتساب أرض، وهذا الاكتساب يصطدم بوجود شعب امتد وجوده فيها آلاف السنين.
من هنا يكتسب الاحتفاء بيوم الأرض أهميته، ودلالته التاريخية والنضالية. فهو من جهة تأكيد للعالم بأسره أن الصهاينة لم يكتسبوا أرضا بلا شعب، بل إن هناك شعبا أكد حضوره في سلسلة ممتدة على هذه الأرض. ومن جهة أخرى، فإن هذا الشعب يعلن في تظاهره كل عام بهذه المناسبة، تمسكه بأرضه ومواصلته النضال من أجل تحقيق أهدافه في الحرية والحق في تقرير المصير.
مناسبة الاحتفاء بيوم الأرض، تعود إلى الثلاثين من مارس عام 1976، حين احتج فلسطينيو الداخل على استمرار سلطات الاحتلال في مصادرة الأراضي الفلسطينية، لصالح بناء المستوطنات للمهاجرين الجدد، تطبيقا لسياسة التهويد. لقد شهد ذلك اليوم إضرابا عاما في أراضي 48 احتجاجا على سياسة التهويد المنهجي للأرض. كما شهد مظاهرات شعبية واسعة، عمت مدن وقرى منطقة الجليل، شمال فلسطين. وووجهت تلك المظاهرات بالقمع، وإطلاق النار مما أدى إلى سقوط ستة شهداء وجرح أكثر من 400 شخص من المتظاهرين. وقد قوبل القمع الصهيوني للفلسطينيين بغضب شديد واحتجاجات على مستوى الوطن العربي، وفي عدد من بلدان العالم. ومنذ ذلك التاريخ صار معتادا أن يحتفل الفلسطينيون والعرب ومناهضو الاحتلال الصهيوني بهذه المناسبة، بمهرجانات التأييد للقضية الفلسطينية ومظاهرات الاستنكار لاستمرار الاحتلال الصهيوني لأرض فلسطين. وصار من المعتاد أيضا أن يستعاد في هذا اليوم تاريخ الصراع العربي الإسرائيلي، بدءا من النصف الثاني للقرن التاسع عشر، واستمرارا حتى إعلان وعد بلفور، وصولا إلى قرار التقسيم والنكبة والنكسة.
واقع الأمر، أن هذا الاحتفاء يأتي في سياق إيجابي، وهو في أضعف حالاته استلهام للقول المأثور: "وذلك أضعف الإيمان". لكن نقطة الضعف فيه هو أن شأنه في ذلك شأن الكثير من المناسبات التي يحتفل بها في الأقطار العربية، ربما يتحول إلى مرثية نستعيدها كل عام، تحقق بعضا من توازننا النفسي، لكنها غير قادرة على إيقاف المشروع الصهيوني عن التقدم نحو أهدافه.
المعضلة كما أتصورها، أننا ناضلنا كثيرا، وقدمنا الكثير من التضحيات. وكانت مشكلتنا باستمرار هي غلبة الشعار على التخطيط، وغياب البوصلة. فكانت المحصلة أننا وقعنا بين موقفين أحدهما عدمي يطرح شعار المقاومة والكفاح المسلح، لكنه لا يملك خطة طريق لتحقيق ذلك، بما تسلتزمه خطة الطريق من أدوات ومناهج وقدرة على التعبئة والتحشيد، ووضوح في الرؤية. وعلى الجانب الآخر، نهج تصفوي، سلم بالأمر الواقع، ورفع شعار قبول الممكن على أمل أن تتغير موازين القوى الدولية، وينتصر ميزان الحق، فيصبح للعرب مكانتهم وكلمتهم. وكان ذلك تعويلا على الوهم.
وكانت النتيجة، أن الصراع ضد الكيان الصهيوني، قد تحول إلى مواجهة مستعرة بين العدمي والتصفوي، سقط فيها ضحايا، تجاوز تعدادهم عدد الضحايا الذين سقطوا في الصراع مع العدو. ولم يحقق كلا النهجين قيد أنملة على طريق تلبية الأماني المشروعة للشعب الفلسطيني. يتجسد ذلك في أوضح صوره في الصراع الذي احتدم منذ عدة سنوات بين السلطة الفلسطينية بقيادة حركة فتح، والحكومة المقالة في قطاع غزة بقيادة حركة حماس.
في هذه المناخات، يتقدم المشروع الصهيوني بثبات، ويتجاهل قرارات الأسرة الدولية والمشاريع التي قدمت حتى من حلفائه الأميركان، كتفاهمات ميتشل وخارطة الطريق. وحتى المبادرة العربية، التي عكست موقع العرب في موازين القوة والتي لم تلب الحد الأدنى من حقوق الفلسطينيين قوبلت بالرفض، ولتعود من جديد للميثولوجيا الصهيونية التي قدمنا بها هذا الحديث قوة إضافية، لعل أبرز ما يعبر عنها بجلاء، والفلسطينيون يحتفون في هذا العام بيوم الأرض اقتراعا يؤكد أن حوالي 90% من الرأي العام الصهيوني يؤيدون تهجير عرب48.
يتزامن هذا الاقتراع، مع تفش مفرط للمظاهر العنصرية بالمدارس اليهودية، وتعميم مقولة "إن العربي الجيد هو العربي الميت"، وانتشار ظاهرة كتب شعارات عنصرية معادية للعرب على جدران المدارس، وفوق كراسات الامتحانات ليس أقلها عبارة "الموت للعرب". ويترافق مع هذا النهج، ما نشره مؤخرا تقرير حقوقي عن الأوضاع في فلسطين الداخل، يكشف فيه عن تصاعد الاعتداءات العنصرية من قبل المؤسسات الرسمية الصهيونية ومن قبل متطرفين يهود ضد عرب48.
ومن جانب آخر، أظهر تقرير حقوقي آخر أن الحاخامات اليهود الذين أفتوا بمنع إسكان العرب أو بيعهم، لا يشكلون استثناء في المؤسسة الصهيونية، بل إنهم يعبرون عن فكر ونهج راسخين في النظام والتجمع الاستيطاني الصهيوني.
إن هذا الاستعار العنصري الذي شهدناه مؤخرا على امتداد فلسطين، ليس عفويا أو فرديا, وليس معبرا عن موقف أقطاب اليمين الصهيوني مثل مارزيل وبن غفير وغيرهما فحسب بل ترعاه المؤسسة الصهيونية الحاكمة. فقادة اليمين المتطرف ينظمون مسيرات عنصرية بعلم وموافقة وحماية قوات الاحتلال الإسرائيلي. وهم في وضح النهار وعلى مرأى ومسمع من العالم كله، يعملون على مدار الساعة من أجل تهويد البقية الباقية من فلسطين، معتمدين في ذلك على سياسة التطهير العرقي التي لم يتوقفوا عنها منذ احتلال واغتصاب فلسطين. وقائد هيئة الأركان الأسبق للجيش الإسرائيلي موشيه يعلون يعلن عن عدم وجود فرصة للتعايش بين "الشعبين" العربي واليهودي.
والعرب مشغولون بهمومهم الخاصة، وتداعيات ربيعهم. فهل ستكون الغطرسة العنصرية الصهيونية، والاحتفاء بيوم الأرض محرضا لكل الأطراف الفلسطينية المتصارعة لجعل يوم الأرض مناسبة لنفي النفي، وإسدال الستار على حقب مشاريع الضياع، وخلق خطة طريق تتماهى مع ربيع العرب، ويقظتهم الجديدة... ذلك أمل كامن عسى أن يبزغ من بين الركام.