لو تأملنا اعتماد كثير من المشاركين في مواقع التواصل الاجتماعي أسماء مستعارة، لرأينا في ذلك عتبة أولى لتبين أننا أمام انشطار في الشخصية، قد لا يكون مبنيا على وعي، تتولد من خلاله ذات تمارس الكتابة تختلف عن تلك الذات التي تمارس الحياة اليومية

ليست الكتب الجديرة بالقراءة هي تلك الكتب التي تنوء بها المكتبة العربية، والتي لا يزيد دورها -حين تُحسن هذا الدور- عن أن تضيف إلى معلوماتنا المتراكمة مزيدا من المعلومات المتراكمة كذلك، وإنما هي تلك الكتب التي تمنحنا أدوات للتفكير فيما ما نعلمه، وطرائق في البحث تمكننا من مراجعة ما نعرفه. الكتب الجديرة بالقراءة ليست الكتب التي تقول لنا ما لا نعرف، وإنما الكتب التي تحملنا على إعادة النظر فيما نعرف، وإذا كان ذلك كذلك، كان لنا أن نعتد بكتاب الدكتور عبدالله الخطيب «في الأخلاقيات اللغوية: مقاربات نظرية وتطبيقية»، باعتباره واحدا من هذه الكتب المؤسِّسة لضرب مختلف من التفكير وأليات البحث.

الكتاب الصادر حديثا ضم 3 مقالات مترجمة عن الفرنسية، ومدخلا لا يقل أهمية عن تلك المقالات، وهو مدخل يؤكد لنا معرفة الكاتب بما يترجم في زمن أصبحت فيه كثير من الترجمات ضربا من الرطانة التي لا يفقه مترجموها ما يترجمون، فضلا عن أن يفهم قارئوها ما يقرؤون.


المقدمة التي تجاوز عدد صفحاتها عدد صفحات المقالات الـ3 المترجمة، اكتفى صاحبها باعتبارها مدخلا، وكان من حقها أن تكون كتابا مستقلا، فإن لم تكن كذلك فهي وعد بمثل هذه الدراسة التي تحقق لنا وعيا جديدا، بما تنهض به من تفكيك الخطابات المهيمنة، وكشف الأسس الأخلاقية. وعلى نحو أدق الأسس غير الأخلاقية التي تتوارى خلف كثير من تلك الخطابات.

وإذا كان قد تكشّف لنا زيف كثير من الخطابات التي كانت متداولة في زمن ما عرف بالصحوة، فإننا بحاجة ماسة إلى فهم آليات تلك الخطابات ومعرفة أساليبها في الهيمنة على المجتمع هيمنة ثقافية واجتماعية، وهو الأمر الذي نحتاجه كضمانة لعدم تكرار المأساة التي عاشها مجتمعنا ردحا طويلا من الزمن.

وإذا لم يعد يخفى علينا ما بدا من تقلب مواقف كثير من المتشددين، وتحوّل آرائهم من النقيض إلى النقيض، بل لم يكن يخفى علينا -قبل ذلك- مدى التناقض بين ما كانوا يدعون إليه في محاضراتهم وخطبهم وما يمارسونه في حياتهم العامة، فإن حمل ذلك على أنه ضرب من النفاق الاجتماعي تبسيط لما هو أكثر تعقيدا من ذلك، وهو تبسيط مخلّ وغير كاف لتفهم ما كان يحدث فضلا عن اكتساب المناعة التي تقي من احتمالات حدوثه مرة أخرى.

في سبيل تفهم ذلك، سنتوقف عند طرفة تداولتها مواقع التواصل الاجتماعي قبل فترة من الزمن، طرفة تقول: «تشوف الرسايل في»واتس أب«تحس إنك عايش مع الصحابة، تخرج الشارع تلقى نفسك مع كفار قريش»، وهي طرفة تصلح أن تكون شاهدا على ما يتم تداوله على أنه ضرب من «النفاق الاجتماعي»، الذي يحاول من خلاله كثيرون أن يظهروا بمظهر الحريصين على القيم، المنافحين عنها حد التشدد رغم أنهم يمارسون خلال حياتهم اليومية ما لا ينسجم مع تلك القيم التي عليها يحثون وعنها ينافحون.

غير أننا إذا ما أعدنا النظر ووسعنا دائرة مواقع التواصل لتشمل مختلف الوسائط التي يصدق عليها ما يصدق على جماعات «واتزأب» من ثنائية «الصحابة - كفار قريش»، فإن بإمكاننا أن نرى في اعتماد الغالبية العظمى استخدام أسماء مستعارة، ما يحول دون ما يمكن أن يحققه ذلك التمسك بالقيم الأخلاقية والمنافحة عنها من فائدة شخصية، تكون مبررة لوصف من يفعلون ذلك بالنفاق الاجتماعي، بل إن صلات القربى والصداقة التي تجمع غالبية المشتركين في جماعة من جماعات «واتزأب»، والذين يعرفون بعضهم على مستوى خطابهم الأخلاقي ومستوى حياتهم العامة المختلفة والمتناقضة معه، وتقبلهم مثل هذا الاختلاف يمكن لها أن تحول دون اختصار هذا الاختلاف في أنه لا يتجاوز أن يكون ضربا من النفاق الاجتماعي.

ولعلنا لو تأملنا اعتماد كثير من المشاركين في مواقع التواصل الاجتماعي أسماء مستعارة، لرأينا في ذلك عتبة أولى لتبين أننا أمام انشطار في الشخصية، قد لا يكون مبنيا على وعي، تتولد من خلاله ذات تمارس الكتابة تختلف عن تلك الذات التي تمارس الحياة اليومية، وهي ذات يصدق عليها ما ذكره فوكو في كتابه «استعمال الملذات»، والذي كشف في جزئه الثاني الأساليب التي تتبعها الذات كي تشكل من داخلها فاعلا أخلاقيا عند ممارسته الكتابة، مشيرا إلى ما يحدث عندما يتم «تشكيل للذات كـ»فاعل أخلاقي«يحصر الفرد ضمنها الجزء من ذاته الذي يُشكل هذه الممارسة الأخلاقية، كما أنه يُحدد موقفه تجاه المبدأ الذي يتبعه، ويعرّف نمطه الذي يسير عليه، والذي سيكون بمثابة استكمال لذاته الأخلاقية. ولإتمام ذلك، يقوم الفرد بالاشتغال على نفسه، والتعرف عليها، والتحكم بها، وامتحانها، وتطويرها، وتحويلها».

واستنادا إلى ما ذهبت إليه كريستيفا من أن هذه الذات هي ذات لغوية، فإن بإمكاننا أن نذهب إلى ما هو أبعد من ذلك، حين نراها ذاتا كاتبة ومكتوبة في آن، «ذاتا كاتبة» كما يتجلى ذلك فيما تمارسه من كتابة، و«ذاتا مكتوبة» في الآن نفسه باعتبارها نتاجا تم تشكيله عبر النصوص المهيمنة والمشكلة للخطاب، بما تحمله من سلطة دينية وتاريخية واجتماعية وثقافية، وما يتم اعتماده من أساليب تربوية عبر المدارس والجامعات حين ينصب عملها على إعادة تأهيل الإنسان، كي يكون متوائما مع القيم التي تضبط العلاقات بين أفراد المجتمع.

وإذا ما توصلنا، فيما نضيفه إلى ما قدمته كريستيفا، إلى أن «الفاعل الأخلاقي» الذي يتلبس الذات الكاتبة، إنما هو في أصله «مفعول أخلاقي»، توجب علينا إعادة النظر فيما تحدث عنه فوكو من قيام المرء بالاشتغال على نفسه والتعرف عليها والتحكم فيها وامتحانها وتطويرها وتحويلها، ذلك أن هذا الاشتغال على الذات -كما طرحه فوكو- يوهمنا أننا أمام ذات فاعلة واعية بما تفعله، وليس أمام الذات المفعولة التي تنشطر دون وعي بين ممارساتها التي تنتمي إلى السلوكيات العامة التي تمثل في كثير من الجوانب حرية الإنسان وتحرره، والذات الكاتبة التي هي محصلة للذات القارئة، أو كي نكون أكثر دقة الذات المقروء عليها، وهو ما يعني أن الذات الأخلاقية ليست نتاج ممارسة للتحكم بالذات وتحويلها -كما يرى فوكو- وإنما نتاج للخطاب الأخلاقي الذي تم إخضاع هذه الذات له.

وإذا ما حاولنا الاستفادة من آداب الماركسيات اللغوية، فإن لنا أن نرى في تشكل الذات الكاتبة أو الذات الممارسة لأخلاقيات الكتابة إلحاقا للذات بالطبقة المهيمنة والراعية للأخلاقيات في المجتمع، من علماء ومفكرين وكتاب يشكلون حراس الفضيلة في المجتمع، ويتلقون مقابل ذلك احترام المجتمع لهم، وهو ما يعني أن للكتابة الأخلاقية دورا في إعادة ترتيب طبقات المجتمع ترتيبا يخضع للقيم الأخلاقية التي يكرسها الخطاب الأقوى في المجتمع.

سعيد السريحي

* كاتب سعودي