إن الانخفاض المتواتر سنويا لمستوى مخرجات التعليم العام في المراحل الابتدائية والمتوسطة والثانوية يعد أمرا محرجا لمسيرة تعليم بدأت من النصف الثاني من القرن الماضي، فضلا عن ذلك يعتبر من أهم المخاطر التي تهدد مستقبل الوطن من خلال إنتاج أجيالٍ السمة الظاهرة لها ليست فقط الضعف أكاديميا بل مهاريا وثقافيا، واليوم للأسف نضيف، وبكل حرقة، أخلاقيا. رغم أننا نعترف بالمجهودات التي قام التربويون ولفترات متواصلة بتطبيق آخر الدراسات التي تمس مجال التربية والتعليم من حديث إلى مطور، إلى تجربة إدخال التقنيات داخل الفصول الدراسية، ولكن وحسب نتائج الدراسات وإحصاءات الجامعات المحلية، بالنسبة لمستوى مخرجات التعليم العام، لا نجد أي مؤشر على تقدم، بل على العكس غالبيتها تشير إلى تراجع مطرد مع مرور الوقت.

العجيب أنه في السنوات الأخيرة، اكتشف الباحثون أمرا واضحا، وكأنهم أعادوا اكتشاف "الدولاب"، اكتشفوا أمرا ربما هُمش تحت ثورة تطوير وبناء المناهج، ونظريات التعليم والتعلم، ودراسات صعوبات التعلم، وبناء معايير البيئة المثالية لإنتاج تعليم وتعلم مميز، اكتشفوا أمرا أهم من الكتاب المدرسي ومصادر التعلم، أهم من الاختبارات ووسائل وتكنولوجيا التعليم، لقد اكتشفوا أهمية دور وتأثير المعلم الكفء، ذاك الذي يمتلك الموهبة الفطرية في القدرة، ليس فقط على التعليم، بل على إلهام العقول ودفعها للتعلم والإبداع، نعم ابتعدنا عما هو واضح أمامنا، واتجهنا إلى جميع الطرقات منه وإليه، نعم يمكن أن يجهز الفرد كي يكون معلما، ولكن لا تستطيع أن تجعل منه معلما.

الذي يحدث اليوم في مدارسنا، أن من هم في أمس الحاجة للمعلم المبدع والفعال، غالبا ما يقعون تحت رحمة الأضعف، وأحيانا كثيرة، غير المجهز أو الذي لا يرغب أصلا في تطوير أو تحسين أدائه، ومن يُقيّم على أساس أنه لا يصلح، هذا إن سلمنا بأن لدينا سبل تقييم موضوعية ومستقلة، يمرر إلى المرحلة التعليمية التي قبل أو إلى مدرسة أخرى! بالرغم من أنه توجد دراسات عالمية ومحلية قد أشارت نتائجها إلى أن من يمر عليهم وعلى شكل متتال من ثلاثة إلى أربعة معلمين أقوياء ينتهي بهم الأمر إلى التفوق بغض النظر عن مستواهم الأكاديمي قبل ذلك، في حين أن الأطفال الذين يمر عليهم اثنان ضعفاء وعلى شكل متتال أيضا، يعانون من ضعف شديد ويجدون صعوبة في اللحاق بزملائهم ومنهم من قد لا يستطيع اللحاق أبداً.

ولهذا يجب أن نفكر مليا في من نوظف في هذه المهنة الحساسة، ومن نبقي ومن نسرح، كما يجب أن نسأل أنفسنا، هل المدارس الحكومية تجذب الأفضل والأقوى من المعلمين والمعلمات أم من يريد الوظيفة؟ هل نختارهم بناء على الصلاحية والكفاءة والقدرات أم بناء على شهادات جامعية فقط؟ ومن يُثبت منهم أنه غير صالح، هل يتم التسريح أم التدويل بين المدارس أو الإدارات؟ وماذا عن من هم مبدعون، هل يتم تحفيزهم بعلاوات ودعم مادي لبرامج إبداعية بنوها من أجل تطوير العملية التعليمية في المحيط الذي يعملون به؟ هل القطاع الخاص يتابع هؤلاء المبدعين ويقدم لهم العون في تحقيق برامج أو تأسيس مدارس يتم فيها اعتماد تلك البرامج وعلى نطاق أوسع؟ أتحدث هنا عن برامج تم بناؤها وتجربتها وعلى مدى سنوات، وأظهرت أنها فاعلة من حيث التطبيق والنتائج. السؤال الأهم هنا.. ماذا نريد؟ هل نعلم حقا ماذا نريد من وزارة التربية والتعليم؟ أن تعلِّم أم توظف؟!

لقد استسلمنا في الفترة الأخيرة للأفكار الانهزامية، وهذا ليس غريبا في بيئة كثر فيها التذمر وانشغلنا بتمرير الأخطاء من الأهالي للمجتمع للوزارة للعولمة وسيطرة الإعلام ووسائل الاتصال الاجتماعي على الشبكة العنكبوتية وغيرها مما يخرجون به إلينا كل يوم، حتى إننا تمسكنا بمعايير تعطينا الأسرة الحاضنة الصالحة، ونشرنا النتائج ولم ننشر كيفية تطبيق هذه النتائج، وأنا هنا لا أنفي أو أقلل من تأثير أي مما ذكرت سواء السلبي أم الإيجابي، ولكن عدم اتخاذ الإجراءات الحازمة في التخلص مما هو ضعيف وتبني ودعم كل من يظهر الإبداع والتطوير والمهارة في التأثير الإيجابي المميز سوف يحرمنا من مخرجات قادرة على التنافس ليس محليا بل إقليميا وعالميا.. الذي أريد قوله هنا إننا مبدعون في المحاولات ولكن الاستمرار حتى الوصول إلى الجذر، للاستئصال والمعالجة، لا يحدث، فدائما ما نستدير ونعود للسطح ثانية كباحثين لا كمعالجين!

على الأقل في بعض المدارس الخاصة، والمميزة منها، لا يُحتفظ بأي مدرس ضعيف المستوى، أي إنه هنالك أملا، ولكن هذه الخدمات تقدم لمن يستطيع أن يدفع، أو في بيئته يوجد هكذا مدراس، ولكن ماذا عن البقية؟ هل نستسلم لصعوبة تسريح المعلمين الضعفاء، ونترك مصير أبنائنا بين يدي من لا يقدر؟! إن قبلنا ذلك فإننا نقسم التعليم إلى نظامين، الأول للطبقة الغنية أو لنقل القادرة على الدفع، والآخر للطبقة الفقيرة! وإن قبلنا بذلك فإننا نعترف بأن مدراسنا "تكية" وليست للتعليم!