لم يحدث من قبل أن كانت هناك تغييرات جذرية في المجتمعات مرت بهدوء، وبلا تجاوزات وأخطاء. الثورات لا تصل كاملة، ولا تحدث بين ليلة وضحاها، أو حتى بين سنة وأخرى، فكيف إذا كانت ثورة صعبة ومستحيلة ومتروكة للمضي قدماً وحدها، كالثورة السورية!

واحد من الخطوط الحمراء التي لا يجرؤ الناشطون على الحديث بصراحة علنية عن ممارساتها الخاطئة هو "الجيش السوري الحر"، أي القوة العسكرية التي تأسست في 29 يوليو 2011 بهدف حماية المتظاهرين السلميين، والتي نريدها جيمعاً أن تكون جيش البلد الوطني.

ومؤخراً قُتل النقيب أمجد الحميد، ثم صرح الناطق الرسمي باسم لوائه أن مجموعة مجهولة قامت باغتياله تحمل الاسم الغامض "المؤمنون يشاركون السلفية". وكان هذا مجرد اتهام، مرّ بشكل سريع مع أنباء المجازر والدماء التي لا تتوقف، لكن الخبر الذي سينتهي سريعاً مع فداحة مطحنة الدماء، يجب التوقف عنده.

ما يبدو واضحاً ومن خلال الفيديوهات المسربة للنقيب أمجد الحميد أنه كان عسكرياً وطنياً وذا عقل راجح، وكان قبل يوم واحد من اغتياله قد ألقى خطاباً مطولاً في مدينة الرستن، نُشر فيما بعد على "اليوتيوب"، انتقد فيه الممارسات الخاطئة لبعض الجماعات المسلحة التي تشكل عبئاً على الثورة. وقال الحميد إن الثورة لا تحتاج إلى وصايا بهدر دماء، كما فضح ممارسات السلب والخطف والهجوم على المناطق السكنية، التي تقوم بها بعض الجماعات المسلحة والمحسوبة على "الجيش السوري الحر"، وأضاف أن هذه المجموعات تشكل عبئاً على الثورة، لأن الرجولة لا تعني خطف النساء، وإنما محاربة قوات بشار الأسد.

من كان له المصلحة العليا بقتل هذا النقيب الوطني، ذي اللغة الإنسانية العالية والمثقفة؟ من له اليد الطولى في التخلص من هذا الخطاب اللاطائفي، المستحسن انتشاره بين صفوف العسكر؟

ربما يكون النظام نفسه أول المستفيدين، لكن الاستفادة هذه تجتمع مع مصلحة عناصر أخرى، منها الجماعات المسلحة التي أشار إليها الناطق الرسمي باسم لواء الحميد. أيضاً، الطائفيون في "الجيش السوري الحر" لهم مصلحة، والمتطرفون كذلك! أطراف عدّة تتفق على خنق صوت العقل في الشطر المسلح من الثورة، هذا السلاح الذي أُشهر كقيمة أخلاقية عليا للدفاع عن حرية التظاهر، وللدفاع عن الحياة!

الغريب أن قيادة "الجيش السوري الحر"، وبعد إعلان الناطق الرسمي باسم لواء النقيب الراحل توجيه أصابع الاتهام إلى مجموعة مسلحة بعينها، صمتت صمتاً تاماً، ولم تلق بالاً للأمر. كذلك صمتت عندما طالبها عدد من الهيئات ولجان الحراك الشعبي السلمي في الداخل، بتنظيم أمور الجماعات المسلحة التي تتصرف بمعزل عن أوامر عسكرية قيادية. في غياب هذا التنظيم تكون الفرصة مواتية لنشوء تجاوزات، وحالات انتقام، كردّ فعل على ما يقوم به النظام وشبيحته وأجهزته الأمنية، وأحياناً قد تكون فرصة لمجاراة النظام في أعماله الوحشية والطائفية!

لا أحد يستطيع إنكار الألم الإنساني، وما قد يفعله في ذهاب العقل، عندما يكون السلاح سيد الموقف، ولا أحد يستطيع نكران حقيقة أن العنف ينتج ثقافته اليومية والمعيشية الصعبة، التي لا يمكن ضبطها ببساطة. وهناك أمثلة كثيرة يتحدث عنها نشطاء الثورة، يصعب عليهم الإفصاح عنها علانية، لعدة أسباب، من أهمها أن لديهم مخاوف من ردات فعل انتقامية تقوم بها هذه الجماعات المسلحة ضدهم، وأن مطلب إسقاط النظام له الأولوية القصوى، ولكن، وبينما الدم يسيل، والشعب السوري يؤرخ الآن ملحمته الكبرى، على قيادة "الجيش السوري الحر" وضع نفسها على مستوى عال من المسؤولية التي ارتضتها لنفسها، فهي الآن أمام مصير وطن بأكمله، ووحشية النظام لا تعني أن يتحولوا إلى الضفة الأخرى التي خاطروا بحياتهم من أجل طيّ صفحتها. الرصاص والسلاح كان ويجب أن يظل لحماية الناس العزل، ولإجبار قوات النظام على التراجع، والأصوات المتطرفة التي تحمل السلاح سوف تشكل خطراً على الثورة، لا يقلّ عن خطر النظام نفسه.

إن حادثة اغتيال النقيب أمجد الحميد يجب أن تكون صفارة الإنذار التي لا يجب القفز عليها بسهولة، فقيادة الجيش الحر مطالبة الآن بالإعلان عن فتح تحقيق في مقتل النقيب، وكشف ومحاسبة مرتكبي هذه الجريمة. وربما الأهم من هذا هو أن تفعل هذه القيادة ما تستطيعه من أجل احتواء انفلات هذه الجماعات المسلحة، حتى لا نقع في المحظور أكثر مما وقعنا.

ربما كانت كلمات النقيب حول ما تتحمله الثورة من أعباء منتفعين ومتسلقين بين العسكر، ممّن يضرون بهذه الثورة ويساهمون من دون وعي وتفكير بخدمة جليلة للنظام، هي النقطة التي يجب على قيادة "الجيش السوري الحر" الانطلاق منها، ذلك لأن نقد الثورة هو عملية حبّ لها وخوف عليها، والتصفيق الدائم ليس في محله عندما تتعثر عجلات العربة!