على مدار التاريخ كان الفن والدين والفلسفة هي المصادر المعرفية التي تكوّن للإنسان معنى لحياته ونفسه وتجيب عن أسئلته. كانت ومازالت هذه المصادر موجودة مع بعضها ولكن بصيغ مختلفة بحسب الظروف التاريخية والسياسية. ففي الشرق مثلا كان هناك مزيج كبير بين هذه المصادر ظهر في الحكمة الشرقية بشكل واضح. بينما في الشرق الأوسط كانت هذه المصادر متمايزة والعلاقة بينها تتفاوت بتفاوتات سياسية بالدرجة الأولى. في الغرب اليوم توجد صيغة تكفل لجميع هذه المصادر بالتواجد مع بعضها والتأثير على المجتمع من خلال حراك ديموقراطي يكفل المساواة بين جميع الأطراف.

يحيلنا هذا المدخل إلى مفهوم سلطة المعرفة. وهو أن كل معرفة لها سلطة بمعنى قوة تأثير وتغيير على الأرض كما أنها قوة مصالح نفعية أيضا. فمن يمتلك معرفة فهو يمتلك سلطة. وبالتالي فإن فهم العلاقة بين المعارف المعينة يتطلب فهم صراع السلطة بينها أيضا فليست القضية محصورة في مفهوم الحق والباطل بقدر ما هي ممتدة إلى صراع السلطة على المجتمع. إذن لدينا ثلاثة أشكال للمعرفة: الفنية، الدينية، العقلية (التي تشمل العلوم الإنسانية والطبيعية) لهذه المصادر ممثلون على أرض الواقع ولهم حراك اجتماعي وسياسي واقتصادي. وحين نعود إلى السلوك الاحتكاري الغريزي عن الإنسان فإن ممثلي هذه المصادر -عبر التاريخ- يسعون للسيطرة على الناس واستثمارهم لصالحهم.

أي إن بعض المتدينين على سبيل المثال يحاولون منع الناس من الفن والعلوم العقلية لكي يحتكروا هم عقول الناس وبالتالي يسيطرون عليهم ويحركونهم في الاتجاه الذي يريدونه. من خلال هذه السيطرة يكسب الواحد منهم حضورا اجتماعيا كبيرا ضاغطا.

ولكي يحافظ على هذه المصالح فإنه يشن حروبا مستمرة على المصادر الأخرى لإبقائها في أدنى مستوى ممكن من الحضور.

طبعا من الظلم مساواة كل هذه المصادر في عملية التسلط، فالفن يكاد يكون بريئا من هذه التهمة فيما يحمل رجال الدين وكذلك العلم تاريخا سلطويا معلوما. ففي التاريخ الأوروبي مارست الكنيسة أعمالا أصبحت مشهورة لمحاربة مصادر المعرفة الأخرى خصوصا العلمية منها. وفي القرون الأخيرة شهد العالم سيطرة علمية تجاوزت حدودها ومارست التسلط أيضا. في التاريخ الإسلامي تتبع سير العلماء والفلاسفة يشهد بوضوح على الممارسات التي سعت لعزلهم عن الوجود.

وعلى مدار التاريخ استمر حرق الكتب كما حصل مع ابن رشد الفيلسوف والسجن كما حصل مع الإمام أحمد بن حنبل ويستمر الحال حتى اليوم في مشاهد من نوع قتل المفكر محمود محمد طه في السودان وفرج فودة في مصر وطعن نجيب محفوظ ومحاكمة نصر حامد أبو زيد وغيرها من القصص التي تثبت أن صراع التيارات الفكرية كان باستمرار يتم بممارسات سلطوية وقمعية.

عودة إلى موضوع الفن تحديدا لنلاحظ حدّة المواقف التي تتخذ ضده والعداء المستمر له. وبسبب أن الفن لا يمكن انتزاعه من المجتمع مهما كانت الظروف فالبشر كائنات فنية ولا تعيش إلا بالفن فإننا وصلنا في الثقافة العربية إلى معادلة معينة محروسة بالحديد. المعادلة كالتالي الفن موجود ولكن يجب أن يبقى معصية في وعي الناس. نحن نعلم أن الناس لا يمكن أن تنقطع عن الفنون ولكننا نستطيع أن نبقي وعيهم محرّما لهذه الفنون ومحتقرا لها. وهنا يبقى رجل الدين هو ملك الوعي ومحتكر السلطة في العقول. هذه المعادلة محروسة فعلا بالحديد ويمكن قياس هذه بحدّة الاعتراضات على من يحاول نقل الفن من ساحة المحرم والخطيئة إلى ساحة الحلال والطبيعية. لأن هذه النقلة ستحدث معا تغييرا كبيرا في ساحة سلطة المعرفة. فالفنان سيحضر هنا بوصفه معبّرا عن نمط آخر من المعرفة.

الفن يقدم معرفة مختلفة يقدم معرفة حب الحياة فيما قد يقدم الآخر كره الحياة. الفن يقدم ثقافة المتعة فيما قد يقدم الآخر ثقافة عداء المتعة.

الفن يقدم ثقافة إنسانية تجمع البشر فيما قد يقدم الآخر ثقافة الفصل والعزلة. الفن حين ينتقل إلى مساحة المحترم والطبيعي فإنه، سيدخل بأدواته في تشكيل الوعي، في تشكيل معنى الحياة والإنسان. سيدخل الفن بروحه الإنسانية الميالة للحب والتسامح ليفكك البناءات القديمة التي تأسست على العزل والكره والفصل بين الأنا والآخر. دخول الفن إلى مساحة الوعي المعتبرة سيحدث تغييرات على الأرض، سيحدث مقاومة للعنف والكراهية، سيحدث مصدات قوية تجاه التعصب والتطرف فالفن بطبيعته مفتوح ومرن ولدى أفراده القابلية على التواصل والتفاهم.

في مطلع 2009 قدمت المخرجة السعودية هناء العمير فيلما وثائقيا يقدم فرقة سامري عنيزة الشعبية وفرقة تانغو أرجنتينية في استراحة في الرياض وأخرى في عنيزة. لا أحد من الفرقتين يعرف لغة الآخر ولكنهم سرعان ما تواصلوا ووصلوا إلى ألحان مشتركة. ما جمعهم هنا هو لغة الفن، التي هي لغة بشرية لا تعترف بالحدود. هذا الأثر للفن، أثر التواصل والتقارب بين البشر بغض النظر عن اختلافاتهم، هو ما يرعب دعاة الانفصال والقطيعة مع البشر. هذا هو تحديدا ما يمكن أن يفشل مخططات الحرب والعداء والكره. الفن هو اليوم أحد مخارج البشرية من حمى العداوات والكراهية، هو أحد مخارج المجتمعات من اختناقاتها النفسية والاجتماعية. وحضوره في الأخير دليل على توازن سلطة المعرفة وخفوت وطأة التسلط.