في مقالة الأسبوع الماضي تحت عنوان "مواجهة البطالة بالاقتصاد العمالي" طرح كاتب هذه السطور فكرة أن الحل طويل الأمد لمشكلة البطالة التي نعاني منها هو في تعديل الهرم المقلوب في اقتصادنا، فيعود الدور للمواطن السعودي الذي شارك كعامل في بناء خطوط التابلاين لشركة أرامكو، كما كان في الخميسنات على سبيل المثال. فأي اقتصاد هرمي سليم تشكل العمالة المهنية قاعدته العريضة والرئيسية في التوظيف. الاقتصاد السعودي يشهد نموا حقيقيا، ولكنه في المقابل يعاني من بطالة تزداد باضطراد، والسبب في هذا التشوه هو أن ما يتم خلقه من وظائف في الاقتصاد لا يذهب للسعودي نتيجة أحد أمرين: إما عجز المواطن عن الحصول على وظائف بسبب مشكلة التعليم وضعف التدريب، وإما بسبب الرفض الاجتماعي لنوعية معينة من الأعمال، وبخاصة اليدوية. الحقيقة الجلية اليوم هي أنه مع ازدياد نسبة البطالة فإن الطلب على العمالة الماهرة في قطاع البناء والمصانع وفي قطاع الخدمات كالمطاعم وغيرها يرتفع باستمرار. الحلول المطروحة إلى الآن للتعامل مع تحدي البطالة وأهمها برنامج السعودة ليست سوى مسكنات آلام، فإجبار الشركات على توظيف السعوديين لم يغير المعادلة، وإنما فقط وضع ضريبة على تلك الشركات لمشاركة الدولة في مسؤولية تخفيف الضغط القائم من مشكلة البطالة، ولأن البنية الاقتصادية مشوهة ستظل مشكلة البطالة قائمة.

الدكتور وديع كابلي أستاذ الاقتصاد بجامعة الملك عبدالعزيز أرسل تعليقا على هذا الطرح المشار إليه أعلاه يستحق النظر، يقول: "عندما عمل المواطن في شركة أرامكو كعامل بسيط، كان معدما فحصل على أجر، وكان جاهلا فعلمته أرامكو ودربته، وكان بلا سكن فأسكنته، وكان مريضا فعالجته...إلخ، إذا استطاعت شركة أجنبية أن تقوم بذلك لمصلحة المواطن، فلماذا لا تستطيع الدولة أن تقوم به؟ مشكلة البطالة في وقتنا الحالي تكمن في انخفاض الأجور بالنسبة لتكاليف المعيشة، واسترخاص العمالة الأجنبية (الهند، باكستان، بنجلاديش)، فهم يقبلون أي أجر وبأي ظروف عمل، ولو أعطي المواطن أجرا مغريا لا يمكن رده، فسيقبل بأي عمل وسيتدرب له، ويحرص عليه، ولكن يجب أن يعامل معاملة العمال في الدول الغنية مثل السويد والنرويج، وأن يستعمل الآلات، وليس العمل اليدوي المهين، فتخيل معي عامل نظافة (كناس) يعمل على عربة نظافة مكيفة قيمتها مليون ريال وبأجر شهري 15000 ريال مع تأمين طبي وسكن مناسب ومدارس لأبنائه ونظام تقاعدي جيد، من سيرفض تلك الوظيفة؟ إنه يمكن أن يحل مكان 1000 عامل آسيوي بمكنسة يدوية يشحت في الشوارع ويزيدها قذارة وتخلفا وجريمة. قد يؤدي ذلك إلى ارتفاع الأسعار، ما الضرر من ارتفاع الأسعار إذا كانت الأجور ترتفع بنفس النسبة؟ نريد أن ننقل الاقتصاد إلى نفس مستوى المعيشة في الدول الغنية، وليس الهبوط بمستوى المعيشة إلى مستوى الدول الأكثر فقرا".. انتهى تعليق الدكتور وديع.

إن التحدي الحقيقي هو في كيفية نقل بنيتنا الاقتصادية إلى هذه المرحلة بعد عقود من إدماننا على منظومة الاقتصاد الريعي التي تعتمد فقط على شراء الرفاهية من وفرة الثروات الطبيعية بدلا من إنتاجها بجد واجتهاد وعمل الأفراد، وهو أمر يتطلب تدخلا جراحيا في اقتصادنا يعادل ويوازن التدخل غير الطبيعي لطفرة النفط وما أحدثته من تشوهات لبنيتنا الاقتصادية. وهنا تبرز فكرة مشروع "التجنيد الإجباري" أو "خدمة العلم" كأحد الحلول المقترحة، وقد سبق لكاتب هذه السطور أن طرحها سابقا في عدة مقالات في "الوطن" (التجنيد الإجباري: خيار المستقبل في 17/2/2008، التجنيد الإجباري: ملف يجب أن يناقش بكل جدية في 27/9/2009، التجنيد الإجباري ليس عملا عسكريا بالضرورة في 4/10/2009، التجنيد الإجباري.. مرة أخرى 27/6/2010). ومؤخرا في شهر مارس الماضي أعلنت الهيئة العامة لمجلس الشورى عن قيامها بدراسة مقترح مشروع نظام "خدمة العلم"، بحيث يكون نظاما للتجنيد الإجباري يهيئ الشباب السعودي للخدمة العسكرية إضافة للخدمة المدنية، وهو مقترح مشروع مهم وجدير بالمناقشة والدعم، خاصة أنه لا يمثل فقط أحد أبواب احتواء البطالة وإنما أيضا معالجة التشوه الاقتصادي القائم، وذلك من خلال كونه عملية تدخل سريع تتيح توفير تدريب مهني عال للشباب يؤهلهم للعمل، في ظل جو عسكري قادر على المساهمة في معالجة الرفض الاجتماعي القائم لنوعيات كثيرة من العمل. هذا المشروع يمثل أحد أوجه المعالجة الجراحية لاقتصادنا من خلال تعديل الهرم وإعادة دور العامل والاقتصاد العمالي للمواطن السعودي.

وفي هذا الصدد قد يكون من الجدير مناقشة فكرة أن يترادف مشروع التجنيد مع إنشاء شركات حكومية كبرى تمثل مدخلا للاستفادة من طاقة مثل هذا البرنامج لصالح الاقتصاد، ففي بعض الدول كمصر والولايات المتحدة على سبيل المثال تقوم الفيالق الهندسية التابعة للجيش بتنفيذ عدد من مشاريع البنية التحتية، وبالمثال يمكن النظر في فكرة أن تعود الدولة جزئيا كلاعب في الاقتصاد من خلال إنشاء شركات قطاع عام كبرى في المجالات الحيوية في قطاعات البناء والخدمات، وأن تكون هذه الشركات هي مناط التدريب والتوظيف لجموع الشباب المجند، فلا ينحصر التجنيد في مسألة التدريب فقط، وإنما يترادف مع عمل حقيقي على الأرض من خلال شركات القطاع العام هذه، وبذلك يخلق مشروع التجنيد والشركات التي تتمخض عنه نافذة لإمكانية التحول الاقتصادي نحو مجتمع عمالي صناعي سليم، وهذا الأمر لا يتعارض بأي حال من الأحوال مع إمكانية أن يؤدي هذا التحول لرفع مستوى المعيشة كما في الاقتصادات العمالية الصناعية في الدول المتقدمة، فالمسألة فقط بحاجة إلى إدارة سليمة لعملية الانتقال والتحول.