يشبُّ الإنسان بفطرته على الأسئلة، ومنها يستلهم طريقه ومنهجه في هذه الحياة الدنيا، ويصعد بها سُلَّم الارتقاء الذي يصبو إليه، قد يبدو قاع المهد وأودية الطفولة مكانين مريحين هادئين بلا ضوضاء أو عراقيل، فكل ذلك من صنع سنوات المراهقة وبداية مرحلة النضج وتوالي مراحل كبد العيش عند الكِبَر، لكن الفارق بينهما هو في طبيعة الأسئلة واختبار التكليف.
أسئلة الطفولة تتسم بالبراءة والعفوية، فهي غضة بسيطة تَقبلُ إجابات قد تبدو ساذجة يحاول فيها الآباء الابتعاد عن تفصيلات قد لا تتناسب مع أعمارهم، خاصَّة تلك الأسئلة المتعلقة بالخلق والتكوين، وما قد يصعب على الطفل إدراكه وفهمه، وهي محاذير مُحِقَّة ويمكن قبولها والتعامل معها، لكنها في واقع الأمر تعدُّ بداية لإعمال العقل وتحفيز الفكر، وهي لبنة أولى لبناء الإنسان، فالإنسان يتعلم من السؤال، وبقدر تَوفيقه وحنكته في السؤال تكون منفعته أكبر، وكثير من الأسئلة البسيطة تصير مفتاحاً لمعارف كُبرى تغيِّر معالم الحياة وتقود البشرية إلى اكتشاف قدراتها الثَّـرية الكامنة واستثمار مواردها المتاحة.
اكتشاف القُدرات هو إزاحة السِّتار عن حقيقة غائبة عن العين والإدراك والمعرفة، وهو كشف عن الغموض، واستثمار الموارد هو إبداع في ابتكار وسائل تُمكِّن الإنسان من حياة أكثر راحة ورفاهة، وكلاهما من سنن الحياة، والسؤال قد يُصنَّف كالمتاع المشاع، والإجابة بِقَدْرِ الممكن والمستطاع، والاستطاعة رهينة بالعلم والمعرفة، لتنمو وتزدهر بهما لنصل إلى المبتغى والمأمول، وبذلك ترتقي المجتمعات وتتقدم الأمم.
والتمعُّن في طبيعة الأسئلة واختلافها يفتح المجال للتدبُّر في تكوين العقل واتساعه لاستيعاب متغيرات الحياة ونزعات النفس البشرية، بين ما يخصُّها ويعدُّ حقاً مفردا وبين ما يخصّ محيطه ومجتمعه ويُعدُّ شأنا عاما، وقد يكون الخيط الذي يربط بين هاتين الحالتين رفيعاً في كثير من الأمور، وهو خاضع لمتغيرات الزمان والمكان، تماماً كما يخضع للرؤية الشخصية التي تقوم على تقديرات وتبريرات قد لا تتوافق بالضرورة بين الناس كافة، بحكم ارتباطها بعوامل إنسانية وعقَدية واجتماعية لا يمكن إغفالها أو التقليل من تأثيرها وتداعياتها.
وتتباين الرُّؤى وتختلف الآراء حول ماهية الفكر وفطرة الأسئلة، وأيهما يسبقُ الآخر في التكوين أو التأثير، وتلك مسألة جدليَّة تنحاز فيها الرؤية وتستندُ عليها الآراء وفق تقديرات تحكمها فطرة البشر وطبيعتهم التي تتأثر بالمحيط الذي تنشأ فيه ويضع بصماته عليها، وعلى ما تَسِيرُ عليه من نهج أو طريق في المستقبل، وهو اختلاف طيِّب محمود لأنَّه يُفضي إلى بناء فسيفساء فِكرية تزيد المعرفة عمقاً وثراء.