شاع منذ مدّة عدد من الحسابات على مواقع التواصل الاجتماعي، تزعم تخصّصها أو اهتمامها بمجال علم النفس، وأنّها تقدّم وجبات معرفيّة قيّمة لمن أراد التوغّل في عوالم النفس والوقوف على خوافيها وأسرارها، حتى لتظنّ أنّ صاحب الحساب هو «ويليام جيمس» أو «سيغموند فرويد»!!

اعتراني الفضول نحو تلك الحسابات والاطلاع على محتواها، ولا أنسى هنا الإشادة بالفضول الذي يعود له الفضل في رفع ما يقع في نفس الإنسان من تعجّب وتحيّر واستفهام، وإن كان يخطئ الهدف أحيانًا فيرفع نفس الإنسان بما يقع فيها إلى الرفيق الأعلى، بعد أن يدفعه نحو ما لا يدرك خطره، ثم يتركه لمواجهة مصيره المروّع.

حين بدأت أفتّش عن تلك الحسابات وأقرأ ما فيها، وجدت من العبارات «النفيسة» ما جعلني أجزم أنّها ستشكّل نقطة تحوّل في حياة أعداد غفيرة من الناس ولا بدّ، ولعلّ القارئ الكريم سيوافقني على ذلك حين أستحضر له بعض تلك العبارات، خذ مثلًا هذه العبارة: «نفسيًّا.. التفكير الزائد في خيبات الماضي يجعل حياتك كئيبة جدًّا».


من كان يعلم أنّ التفكير الزائد في خيبات الماضي هو أحد الأسباب في جعل حياتنا كئيبة جدًّا قبل أن يفتح الله على صاحب الحساب هذه الفتوح العظيمة؟! بالنسبة لي كنت أعتقد أنّ التفكير في نجاحات الماضي هو الذي يسبب الكآبة، لولا أن تكرّم علينا هذا وأمثاله بشيء من معارفهم الطافحة، وقد ذكّرَتني تلك العبارة قول أحد «الشعراء» قديمًا:

كأنّنا والماء مِن حولِنا *** قومٌ جلوسٌ حولهم ماءُ

وهذا حساب آخر يقول: «نفسيًّا.. لا تصاحب من لا يفهمك ولا تعاشر من لا يعرف قيمتك ولا تنتظر من لا يجد الوقت لأجلك». وسأكتفي بسؤال قصير كتعليق على هذه العبارة: ما علاقة «نفسيًّا» بما جاء بعدها؟!

المشكلة أنّ الناس تجاري مثل هذا الهذيان وتتداوله، ولعلّ التوصيف الأنسب لتلك الحال، هو أنّها طبيعة في الجماهير وليست مشكلة عارضة. وعلى ذكر الطبيعة، تذكّرت تلك المرّة التي قرّرت فيها البحث عن الظالمين على مواقع التواصل الاجتماعي، وذلك بعد أن رأيت الجميع يبثّ التغريدات والمنشورات عن التحذير من الظلم وسوء منقلب الظالم وطلب العون والنصر من الله على الظالمين، فلم أجد ظالمًا واحدًا يملك حسابًا جاريًا.. حتى ثبتُ إلى رشدي، وتذكّرت أنّ الظالم بطبيعته لا يقبل على نفسه صفة الظلم، ودائمًا ما يكون متواريًا بين حشود المظلومين، يدعو معهم على كلّ ظالم.

في النهاية، علم النفس أكبر وأعمق وأكثر تجذّرًا وتشعّبًا وتعقيدًا من التهريج والتسطيح الذي نراه، وعلى الرغم من ذلك، أودّ أن أدلو بدلوي في علم النفس، بما أنّه باتَ كلأً مباحًا للجميع، فأقول: «نفسيًّا.. المواطن هو رجل الأمن الأوّل».. دمتم بخير.