من حكايات تطوير الذات، التي أصبحت مصدر رزق للكثيرين، أن امرأة زارت صديقة لها تجيد الطبخ لتتعلم منها سر "طبخة السمك".. دخلت معها المطبخ لتتلقى أول حصة، فلاحظت أنها تقطع رأس السمكة وذيلها قبل قليها بالزيت، فسألتها، عن السر وراء هذا، فأجابت أنها لا تعلم، ولكنها تعلمت ذلك من أمها.. وقامت خبيرة الطبخ بالاتصال بأمها وسألتها عن السر، لكن الأم، أيضاً، قالت إنها تعلمت ذلك من أمها ولا تعرف له سبباً، فاتصلت بأمها (جدة الطباخة الأولى) لتعرف السر الخطير، وكانت المفاجأة أن (الجدة) قالت: ليس هناك سر، كل ما في الأمر أن مقلاتي كانت صغيرة والسمكة كانت كبيرة فاضطررت إلى قطع الرأس والذيل حتى تسعها المقلاة.
ومغزى هذه القصة الرمزية أن البشر يتوارثون بعض السلوكيات ويعظمونها دون أن يسألوا عن سبب حدوثها في الأصل ومدى صلتها بحياتهم وتأثيرها على حرية تفكيرهم. وليس هدف هذه السطور معالجة تأثير القصص الرمزية وعلاقته بترسيخ المهارات المهنية حين تستودع اللاوعي "مخزن المهارات" الذي ينقل المهارة من الوعي إلى اللاوعي حتى تصبح سلوكاً طبيعياً.. نعم هذه المعالجة التدريبية مهمة ونافعة لكن ليس هنا مكانها ولا القصد من إيرادها.
ما أثارته القصة في ذهني هو أن الكثير من موروث المعارف والسلوك والعادات والقيم نصدقه ويتحكم فينا ونؤمن به دون أن نسأل لماذا؟. إما لأننا لم نلاحظ زيادته على حاجتنا أو ظننا أنه أصيل في ما نعتقد أو نفعل أو نتعامل.. وهنا نسأل: ما فائدة المعرفة إذا لم تحفز العقل للتفكير وتزرع علامات الاستفهام حول "البركة الراكدة" من موروث العادات واختلاطه بالمعتقدات؟. لماذا تنحاز المجتمعات لما ورثته من فهم وتصورات إذا ما اصطدمت بالمستجدات وقضايا العصر؟
ومجتمعنا يمر بمرحلة حضارية وتغيرات جوهرية في العلاقات بين أفراده ومؤسساته تطرح مجموعة من الأسئلة يختلف حولها الكثيرون، ويتصاعد هذا الاختلاف إلى الدرجة التي يلامس ما كان من المسلمات أو ما أطلقنا عليه "ثوابت".. وبدأت الحوارات تدعو إلى "تفكيك" هذه الثوابت لمعرفة أصيلها من دخيلها والمطالبة بالتخلي عن "العادات" غير الملائمة للعصر وفصلها عن المعتقدات التي لا يصح حولها الاختلاف. وترتفع أصوات – لها حضورها وتناميها – تطالب بضرورة هذا الفصل لأنه سيزيل "وهم" الثوابت عن الكثير من الموروثات وينقلها من دائرة "المقدس" إلى "قائمة الاجتهادات" البشرية التي يجوز حولها الاختلاف دون تجريم المختلف. ليس كل موروث من العادات ضارا ومعطلا لمسيرة التطور، لكن هناك الكثير من العادات التخلي عنها لا يقيد التقدم ولا يبطئ مسيرته ولا يعرقل تصاعده إلى أهدافه ومراميه إذ ليس من شروط جودة الطبخ "قطع رأس وذيل السمكة" كما أنه ليس من شروط صحيح الاعتقاد واتباع منهج السلف الصالح أن نحكم الرأي الديني المختلط بالعادات وإعطاؤه مكانة لم تعطه إياها مبادئ الدين أو الثابت من النصوص الشرعية.
وعلى من تحاصرهم "العادات" وتثقل حركتهم ويشوش عليهم الجمود على "قطع رأس السمكة" أن يدركوا أن من ثمرات العلم وانتشار المعرفة وسهولة الحصول عليها والاطلاع على الآراء المختلفة أنها توفر فرصة إجراء "المقارنات" بين وجهات النظر المختلفة وانتقاء ما يتسق من مقتضيات الحاضر دون أن يصطدم بمقاصد الشريعة. وهذه البيئة المنفتحة على وجهات النظر المختلفة في دائرة الإسلام هي التي تساعد جميع تيارات المجتمع وبيئاته على التمسك بتعاليم الشرع دون أن تشعر أنها "خاضعة" لوجهة نظر واحدة تريد تغليب اجتهادها واعتباره الحق الذي لا حق غيره.. وهذه الرؤية المتسعة الجامعة لاجتهادات أهل الاختصاص ، المتسامحة الحريصة على التمسك بتعاليم الشرع هي التي تحفظ لأهل التدين وعلماء الشريعة ودعاتها مكانتهم الكبيرة في حياة الناس حين يدركون أنهم لا يتصيدون أخطاءهم ولا يفرضون رأيهم ويتفهمون معنى الاختلاف وسعته.
ومجتمعنا يمر بمرحلة تتغير فيها حياة الكثيرين، عملياً وتعليمياً ومعيشياً، وهو تغير يطرح تساؤلات عديدة حول قضايا جديدة متعددة يتعلق بعضها بعمل المرأة، ونزولها إلى ساحة المسؤولية وتوليها إدارة حياتها باعتبارها إنساناً كامل الأهلية مستقل الذمة، يريد أن يسافر للتعليم ويترقى في الوظائف العامة ويطمح إلى الوصول إلى كل ما تؤهله له قدراته وفرصته. وهذه القضايا يدور حولها تنازع بين فريق "ضاق" ببعض الرؤى والاجتهادات المتأثرة بالعادات، ودفعه هذا الضيق إلى أن يتصور أن "الدين" هو الذي يعطل حق هذا الإنسان – المرأة – من ممارسة حقوقه ولا يمكنه من نيلها في ظل ضوابطه. وأعتقد أن أهل هذا الصوت لا يشغلون مساحة معتبرة في الوعي العام، مع الاعتراف بقلة الإحصائيات التي يمكن أن تعين على تقدير حجمهم ومساحة حضورهم. وهناك أصوات حادة ترى نفسها "حارس" الفضيلة – وفق معاييرها – وهذا يدفعها إلى الظن بأنها المسؤولة عن تحديد سقف "المباح" ورسم خريطة ومساحة المنهي عنه، وأي مخالفة لما ترى أو معارضة لصوتها ستؤدي إلى الإصطدام معها.. والحقيقة أن هذين الصوتين – المنفلت من قيد الشرع والمتشدد في هذا القيد – لا يمثلان الصوت السائد الذي يمثل صوت الأغلبية الداعية إلى التمسك بالشريعة وآدابها وسماحتها واستيعابها للمختلفين في دائرتها وتحت سمائها. فالصوت الذي يريد "الانفلات" من دائرة الشرع صوت مستفز نشاز عمره قصير ولن تحتضنه تربة المجتمع كما أن صوت التشدد، يسيء إلى الصورة العامة ويغذي التوتر ويهدر الطاقة في تنازع عابث لا ينتهي إلى شيء.. ومن هنا نؤكد أن الصوت العاقل المتزن هو الذي له العاقبة لأنه يعبر عن روح الشرع ويلتقي مع مزاج المجتمع ويدعو إلى فحص "الموروث" للتمسك بالأصيل منه والتخلي عن الدخيل الضيق.