كتاب، رغم سهولة لغته وسلاسة أسلوبه وقرب مأخذه وبعده عن التعقيد، إلا أن سطوره لا تدعك تسترخي وتستسلم للسهولة، فإذا تورطت في ذلك انقطع «الحبل السري» بينك وبينه. فالعنوان «إن لم.. فمن..!!؟» يضعك أمام محصولك من قواعد لغتك وبلاغتها ومقاصد تراكيبها، فلا تستطيع أن تعبر عتبته، بتذوق ومصالحة، دون أن تستنجد بالذاكرة لاستحضار درس «الشرط»، حروفه وأسماءه وأغراضه النحوية والبلاغية، «يشترط» عليك الكاتب، دون أن يقول أو تفطن، هذا الاختبار الإرادي وكأنه يستدرجك لتتوقف عند العنوان غير المسبوق، لينفتح أمام عقلك وذائقتك باب للتأويل يفضي بك إلى ساحة «استقلال الرأي» وحرية الاجتهاد في اختيار ما تطمئن إليه من دلالات تستند إلى ما تختزنه الذاكرة وما تشير إليه الكلمات، كل يرى فيها بقدر ما تسعفه معرفته ويقترب من تقديره، وكأن المؤلف «يستفزك» مرة أخرى، ويدعوك لتشارك في وضع «العنوان» وفهمه وتأويله بما تشاء أو يروق لك، ولكن احذر، لا يغيب عنك أنها «حيلة فنية» أخرى، إياك أن تتورط فيها وتنسى أنه هو من اختار العنوان وأوضح مقاصده عنده، في الصفحة 186 حين قال «لقد أكرمنا الله بجوار بيته العتيق والكعبة المشرفة، ووهبنا الأمن والاستقرار والعيش الكريم، فحق علينا الشكر بالقول والعمل وحمل الرسالة والأمانة، وأن نثبت للعالم أجمع أن الإسلام صالح لكل زمان ومكان، وأن السعوديين أحق بتأكيدها، فهل نفعلها؟ (إن لم.. فمن..!!؟)»، ومع ذلك يبقى «إن لم.. فمن..!!؟» عنوانا غنيا بالإشارات والإحالات، موحيا بكثير من الدلالات، محملا بطاقة تعدد أوجه التأويل، مما يفسح المجال أمام القراء، بتعدد ثقافاتهم ومعرفتهم بالبيئة وبالمؤلف، ويمنحهم متعة الشعور باستنباط الدلالة الأقرب والأولى. إنها تجربة امتزجت في سطورها «الذاتية والموضوعية»، وإن بقيت الموضوعية هي الأبرز والأوضح، لكنها لم تستطع إخفاء «الذات الواثقة المعتزة بانتمائها» بدلالة عبارة تكررت أكثر من تسع مرات هي:
«ابتسمت.. ومشيت»، فقد قيلت في مواقف وظروف وأماكن مختلفة، قالها قبل أن يدرس الثانوية في أميركا، بعد دراستها في السعودية، وتكررت حين قال له موظف القبول في جامعة برنستون «نحن نحب الرياضيين»، وقالها في مواجهة أستاذ «الطائف النموذجية» حين عاب عليه تأخره في دخول الجامعة، وقالها حين عرف في الإعلام الأميركي «باللاعب» وعند الأستاذ الجامعي «بالجاد»، وتكررت حين اضطر لتحضير جي سي إي، للالتحاق بجامعة أوكسفورد، وغيرها من المواقف، عبارة موجزة لكنها صالحة لتكون «مفتاحا» لفهم تداخل الذاتي بالموضوعي في هذه التجربة الثرية.
الكتاب فصول من الأسئلة وفواصل من الأجوبة المركزة عن تجربة إنسان اجتمع له ما لا يجتمع في كثيرين: أمير، ابن ملك وحفيد ملك، مستشار لملك، وحاكم إداري لمنطقتين لأكثر من أربعين عاما، الأولى ميزتها الطبيعة وبكارة التنمية، والثانية نالت تفردها بالقداسة وحضورها في أفئدة الملايين، ثم هو شاعر ورسام، تلقى تعليمه في محيط حضارتين مختلفتين، بوعي حاضر وعقل لاقط للفروق، وذات تعي مكانها ومكانتها، فكانت الآثار والنتائج بعضا مما يكشف عنه هذا الكتاب ولا يحيط به، ولهذا حين تفرغ من قراءته قد تسأل نفسك: هل عرفت خالد الفيصل؟
لا تزهد فيما عرفت، لكن لا تطمئن إلى الوهم بأنك عرفت كل شيء.
جاءت فصول الكتاب تحت عناوين في صيغة أسئلة، أوجز الكاتب الإجابة عنها، دون خلل، وتلبست الإجابات طاقة الإقناع بنقل إيمان الكاتب بها، دون أن يسد الأبواب على من أراد التوسع والتعمق، وكأنها إجابات ترسم الإطار العام وتشير إلى بعض التفاصيل لمن أراد الاستزادة، لكن الكاتب لا يترك غموضا أو لبسا يفسد مقصد نقل التجربة وصدقها إلى المتلقي، فهذا لا يتفق مع منهجه، في كل ما عرف عنه من قول وفعل.
وفي فصل ماذا نريد؟ يعرض الكاتب، بأسلوبه الموجز، إجابته عن هذا السؤال العريض، فتسيل الجمل متماسكة، في تدفق يقف على الحد الفاصل ما بين الشعر المموسق والنثر الطامح لموسيقى الشعر، لكن تظل الفكرة هي «البطل»، الذي تسعى لمرضاته، فنون القول لتؤدي مهمة إيصالها إلى وعي المتلقي بلا تعثر أو غموض أو تثاقل مُملّ، فقد نجحت هذه البلاد في عبور أمواج الغزو الفكري، وتجنبت عثرات الاستعمار، وأطفأت حرائق التطرف لتستقر على شاطئ الاعتدال وتتمسك بالأصل القويم النقي وتمد يدها لعقلاء العصر، المؤمنين بحق الإنسان في العيش الكريم، وفتحت أبوابها لمنتجات الفكر والابتكارات والاختراعات لاستغلال خيرات الأرض لصالح أهلها، ويرى الكاتب أن نجاح مسيرة المستقبل يرتكز على: وضوح الرؤية والتمسك بالقيم، ثم إدراك طبيعة المتغيرات والتفاعل معها وأخذ المبادرات لنكون «فاعلين» في عالم جديد وتحول جديد، وهذا يحتاج إلى أن نثبت لأنفسنا أولا ثم للعالم أن ما نحن عليه من صحيح الدين «صالح لكل زمان ومكان»، كما نحتاج إلى أن نصلح «كل شيء لدينا ليرقى إلى أعلى مستويات الرقي الحضاري في العالم، ويجب أن نساعد أنفسنا بدل طلب المساعدة من الغير، ونبدع ونبتكر ونخترع ونجعل من مدننا جنة أرض لمواطنينا».
ليس من الصعب أن يستخلص القارئ أن «التجديد» قرين التمسك بالقيم والأصالة في فكر ورؤية خالد الفيصل، وأنه «المزيج» الذي رافق مسيرة هذه البلاد، في كل مراحل تطورها، وأكسبها خصوصيتها، وأن «ثيمة التجديد» هي سر نجاح هذه الدولة وقدرتها على التكيف مع مستجدات العصر، «فالدولة السعودية الأولى قامت على الحركة التجديدية التي تبناها الإمام محمد بن سعود والشيخ محمد بن عبدالوهاب»، وجاء الملك عبدالعزيز لـ«يعيد الدولة السعودية الثالثة على مفهوم التجديد، فلم يلتزم بنقل ما كانت عليه الدولة السعودية الأولى ولا الثانية».
ويلخص الكاتب الإجابة عن سؤاله المركزي: ماذا نريد؟ في كلمات قليلة جامعة «نريد أن ننهض ببلادنا ونصل بها إلى مصاف الدول المتقدمة.. نريد مجتمعا راقيا بإيمانه وصلاحه، بعلمه وأخلاقه، بطموحه وأحلامه، بإرادته وقدراته»، ويؤكد إيمانه بأننا «نستطيع فعل ذلك إن أصبحنا قدوة لغيرنا»، وهذا يتحقق «إذا بدأنا بأنفسنا قبل طلب الغير».
الخلاصة: كتاب ممتع غني يستحق القراءة، وأرجو ألا تحجب المكانة الاجتماعية والمنصب الوظيفي لمؤلفه، قيمة هذا العمل الذي امتزج فيه الفكر بالعمل بالتطلع إلى المستقبل، وتحرم عشاق المعرفة من تذوق ما فيه.