هذه الجدلية إن صح التعبير عنها، تجعلنا نفهم كيفية التعامل مع هذا الكم الكبير من نصوص الحديث والمرويات لدى طوائف ومذاهب المسلمين ومرجعياتها كافة، في فحص السند وقبول المتن، ومنهجيتها في الجُرح والتعديل وقواعدها في فهم النصوص، واختلاف المسلمين في الكثير من المسائل الفقهية والعقائدية وغيرها ناتج من طبيعة نقل الحديث وفلسفة تدوينه بين «غياب نص اللفظ وفهم المعنى»، وقد أدى هذا الفهم لنصوص الأحاديث في السيرة النبوية إلى اختلاف كبير بين المسلمين في المفاهيم والمصطلحات والتطبيق العملي لها، كما أنه أوجد مرجعيات مذهبية تتمسك بها وتعمل على تأصيلها وإثبات صحتها، ونفي وإبطال ما لدى الآخر من أحاديث وروايات وتجعل من نفسها مركز الدين والعقيدة.
وأشار القرآن الكريم إلى أهم ظاهرة واجهت الشرائع السماوية السابقة بعد رحيل الأنبياء والرسل عن مجتمعاتهم والتحريف في النقل والتدوين (من الذين هادوا يحرفون الكلم عن مواضعه)، (أفتطمعون أن يؤمنوا لكم وقد كان فريق منهم يسمعون كلام الله ثم يحرفونه من بعد ما عقلوه وهم يعلمون)، (فويل للذين يكتبون الكتاب بأيديهم ثم يقولون هـذا من عند الله ليشتروا به ثمنا قليلا فويل لهم مما كتبت أيديهم وويل لهم مما يكسبون)، فهذه الظاهرة إما أن يكون فاعلها متعمداً من الذين يكتبون الكُتب لأغراض ومصالحة نفعية وسلطوية، أو عن طريق الغفلة والسهو وسوء الفهم والإدراك، ومن هنا فقد تعهد الله في كتابه المنزل على نبيه الكريم بإعجاز الحفظ (إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون)، وأنه لم يتعهد بحفظ السيرة النبوية وتوجيهاتها، لأن في ذلك مصلحة للأمة في صون ثوابتها وشعائرها وأصولها عن طريق القرآن الكريم، وترك المجال أمام الأمة الإسلامية لفهم نصوص وأفعال وتقرير السنة، وفق زمانها ومكانها وظروفها وإمكانياتها، فالحدث واحد والرؤية له متعددة والتنوع في أدائه مصلحة.
وفرضية الإقرار من علماء المسلمين ومذاهبهم ومرجعياتهم الدينية بمفهوم التدوين للسنة «بالمعنى دون نص اللفظ»، يجعلنا أمام استحقاق وحدة الأمة الإسلامية في أصولها ونبذ الخلاف، والفرقة والصراع الطائفي والمذهبي، وأن هذه السنة النبوية بأفعالها وتقريرها جاءت من أجل التنوع في الأداء مع الحفاظ على أصول الدين، وأن ظاهرة التحريف للكلمة والمعنى في الكثير من الأحاديث موجودة بكل تأكيد ولا يُمكن نفيها، وأن المسؤولية الكبرى أمام علماء الشريعة والأصول هي تشريح وحوكمة نصوص السنة النبوية ومروياتها في جميع المصادر بأدوات فنية وعلمية ومنطقية ونفسية، وعرضها على كتاب الله ودراسة تأثير البعد الثقافي والسياسي والاجتماعي في عصر التدوين لها، لمعرفة القريب من صحيحها والمدسوس فيها والبعيد عن القول، وأن الاستمرار في التأكيد بمفهوم صحة الأحاديث النبوية وقطعية ثبوتها بنص اللفظ لكل فريق من المسلمين، يعني أننا لا زلنا نستفيد من آثارها التي تخدم مصالحنا الشخصية والطائفية والسلطوية وتُبقي أمد الفرقة بين المسلمين طويلا.