منذ طرد النظام السوري عسكرياً من لبنان عام 2005 بموجب قرار مجلس الأمن، وفرض العزلة الإقليمية والدولية على "دكتاتورية الممانعة"، تمهيداً لإسقاط النظام، وهي تحاول الفكاك من هذه العزلة بشتى الوسائل، مستعملةً الذكاء والدهاء السياسي السوري المعروف. وقد نجح النظام في ذلك إلى حد بعيد في فك عزلته الإقليمية والدولية، بمساعدة إيران، وكوريا الشمالية، وروسيا، والصين، وأخيراً باحتضانه للحركات الفلسطينية المناوئة لحركة "فتح" كـ "ورقة توت" تستر عورته الدكتاتورية، فسمح النظام السوري لهذه الحركات بفتح مكاتب لها ومنابر للخطابة السياسية العاطفية. وكانت المؤتمرات والمهرجانات "القومية" من ضمن الوسائل التي استعملها النظام السوري لفك عزلته، وكان من بينها "المؤتمر العربي الدولي لحق العودة" الذي عقد في 2008. وكالعادة انقضى المؤتمر بقرارات " طنّانة رنّانة" لم تغنِ اللاجئ الفلسطيني ولم تفقر إسرائيل. وكان كل ذلك لاستعمال "ورقة التوت" الفلسطينية لتغطية عورة النظام السوري.

ولكن هل نفعت "ورقة التوت" هذه لتغطية عورة النظام؟

من الملاحظ أن الأنظمة الدكتاتورية القروسطية لا تنفعها "أوراق التوت" عامة، في تغطية عوراتها، ولن ينفعها في هذا المجال غير الإصلاح والتغيير. وهي للأسف غير قادرة على هذه الخطوة. ولو كانت قادرة على ذلك، لفعلت هذا منذ زمن طويل لحكمها، الذي استمر الآن أكثر من أربعين عاماً.

وهكذا أخيراً، أصبحت الدكتاتورية القروسطية السورية الممانِعة الدكتاتورية المقاطعة من معظم دول وشعوب العالم!

لنلاحظ أن "ورقة التوت" الفلسطينية، التي سقطت في الأمس، وكشفت عن جزء من عورة النظام السوري، كان سببها حركة "فتح"، وزعيمها محمود عباس، الذي يكن له النظام السوري كراهية شديدة، لكونه قد أسهم بفعالية في نزع "ورقة التوت" عن عورة النظام السوري في تصريحاته، ومواقفه السياسية الواقعية العقلانية، والتي تتلخص في أنه لا يمانع إطلاقاً في منح الفلسطينيين المقيمين في الدول العربية جنسيات الدول التي يقيمون فيها، مع الاحتفاظ بحق العودة لمن يشاء أن يعود، عندما تتيسر له العودة، وتفتح طريقها مستقبلاً. فمسألة عودة الفلسطينيين في الشتات والمزروعين في مخيمات منذ ما يزيد عن نصف قرن من الزمان، وفي معيشة حقيرة وزرائب أشبه بزرائب الحيوانات في المخيمات، هي مسألة يلام عليها المجتمع الدولي، والأمم المتحدة، ومجلس الأمن، وإسرائيل، والدول العربية المضيفة لهؤلاء الفلسطينيين، الذين يقدر عددهم بأكثر من ستة ملايين نسمة.

فقد أدرك قسم من عقلاء القيادة الفلسطينية استحالة عودة كل فلسطينيي الشتات إلى أوطانهم الأصلية، فدعا مستشار ووزير عرفات السابق لشؤون القدس - مثالاً لا حصراً - زياد أبو زياد في عام 2002 إلى التنازل عن حق العودة إلى إسرائيل، كما اقترحت "مجموعة زياد أبو زياد" في "منتدى الشرق الأوسط" التابع لجامعة كاليفورنيا، حق العودة من خلال عودة اللاجئين إلى حدود الدولة الفلسطينية الجديدة التي ستقام في الضفة الغربية وقطاع غزة وكل الأماكن التي ستسلمها إسرائيل في إطار معادلة تبادل المناطق.

إن العرب يعلمون، والقادة الفلسطينيون يعلمون، وقادة الفصائل الأصولية الدينية والقومية الفلسطينية المسلحة يعلمون، والرأي العام العالمي، والمجتمع الدولي، ومجلس الأمن، والأمم المتحدة، واليمين واليسار الإسرائيلي يعلم كذلك، أن عودة هذه الملايين (أكثر من ستة ملايين الآن في الشتات) إلى إسرائيل والضفة الغربية وغزة، هي من سابع المستحيلات، وأن تعليق السلام في الشرق الأوسط بشرط هذه العودة لهذه الملايين، هو إجهاض نهائي لأي مشروع سلام، وذلك للأسباب التالية:

1- أن عودة هؤلاء جميعاً إلى إسرائيل وإلى فلسطين ما قبل 1948، معناه القضاء على الدولة العبرية والإطاحة بها سكانياً، إذ إنهم سيصبحون بعد فترة قصيرة هم الأكثرية في فلسطين، وبالتالي سوف يطالبون بالحكم والدولة، إضافة إلى أنهم سوف يشكلون عبئاً اجتماعياً واقتصادياً وتعليمياً وصحياً على الدولة العبرية، مهما حاول الاتحاد الأوروبي أو أميركا التبرع بالأموال. وهذا ما لن يقبل به المجتمع الدولي والأمم المتحدة ومجلس الأمن أو أية صفة شرعية في العالم، بعيداً عن كل عواطف العرب والمسلمين وجمعيات حقوق الإنسان...إلخ.

2- أن عودة هؤلاء جميعاً إلى الضفة الغربية وغزة، سوف تربك السلطة الفلسطينية إلى عشرات السنّوات القادمة، فيما لو علمنا أن السلطة الفلسطينية ترث الآن شعباً في قاع قائمة شعوب الأرض، بعد أن بلغت عنده نسبة البطالة أكثر من ستين بالمئة، وخط الفقر تجاوز الخمسين بالمئة، ومعدل دخل الفرد السنّوي لا يتجاوز خمسمئة دولار سنوياً. ولو قبلت السلطة الفلسطينية باستيعاب ملايين الفلسطينيين في الشتات، فمعنى هذا زيادة كل هذه الكوارث على الشعب الفلسطيني بنسب عالية، مما يهدد بانفجار حقيقي في المجتمع الفلسطيني، لا يحمد عقباه، زيادة على ذلك فسوف ترتفع أسعار الأراضي والعقارات إلى درجة لا يقدر معها الفلسطيني على العيش بأكثر من مئة سنتيمتر مربع!

3- كان فلسطينيو 1948 هم دعاة العنف ودعاة الكفاح المسلح ضد إسرائيل، وضد قرارات التسوية الصادرة عن مجلس الأمن، والأمم المتحدة. وهم بذلك قد أضروا بحق العودة، بحيث أصبح كل عائد محتمل إلى فلسطين ما قبل 1948، هو قنبلة موقوتة ومتفجرة.

4- أن نسبة مئوية ليست ضئيلة من فلسطينيي الشتات، لن تقبل بالعودة إلى إسرائيل أو الضفة الغربية أو إلى غزة في ظل الأوضاع القائمة الآن، وصعوبة الحياة وقلة فرص العمل، وخاصة من يعمل من هؤلاء في الخليج، وفي أوروبا وأميركا، ومن له أعمال ومصالح تجارية وعقارية في باقي الدول العربية التي يوجد فيها فلسطينيو الشتات. وفي ظني أنه لو خيّر الشباب الفلسطيني بين فلسطين وإسرائيل من جهة وبين أوروبا أو كندا أو أستراليا أو أميركا، لاختاروا الخيار الثاني. ونحن نشاهد الآن هجرة معاكسة من إسرائيل والعالم العربي إلى الغرب، كما نرى أن الشباب العربي الذي لم يسبق أن هاجر، يسعى الآن، ويفعل المستحيل من أجل الهجرة إلى أوروبا وأميركا وأستراليا، لضيق العيش وضيق فسحة الأمل.

5- نكران الوثائق الفلسطينية لحق العودة، مثل:

- وثيقة (يوسي بيلين ـ محمود عباس) 1996، والتي سميت "مشروع معاهدة لقضايا الحل النهائي".

- وثيقة (عامي أيلون ـ سري نسيبة) 2002.

- وثيقة جنيف (يوسي بيلين ـ ياسر عبد ربه) 2003 والتي سميت "مسودة اتفاقية للوضع الدائم".

وكذلك اتفاقية أوسلو 1993 التي لم تعترف بحق عودة اللاجئين الفلسطينيين إلى أراضيهم وممتلكاتهم التي طردوا منها، بل إنها لا تأتي على ذكر كلمة العودة، وتتحدث عن خيارات أخرى أمام اللاجئين تسميها مكان إقامة دائم.

فهل بقي للنظام السوري سبب للممانعة الموهومة والمزعومة، بعد أن أصبح هذا النظام مقاطعاً، من قبل معظم دول وشعوب العالم؟