لنتوقف لبرهة عن "جلد الذات" وتتبع السلبيات والسقطات. لنكن أكثر تفاؤلاً هذه المرة ونرصد جملة من الإيجابيات التي تبشر بمستقبل أكثر ازدهاراً وإشراقاً.
أول مظاهر تفاؤلنا ستمثلها "ثقافة التعددية" أو "أدب الخلاف" الذي باتت بوادره تبزغ وتتبلور. صحيح أن جزئية "الأدب" ما تزال مفقودة نوعاً، لكن هناك مظاهر متنوعة للتمرد على الرأي السائد وتبني وجهات نظر مغايرة. و"التمرد" ليس كله سيئاً ولا مذموماً.
هذا التوصيف قد يحتج البعض بأنه ينطبق على أجيال وأجيال من الشباب المتمرد بطبعه في كل مجتمع والذي طالما حاول التملص من سلطة آبائه وأجداده قبل أن يقع تحت طائلة الزمن ويتحول بدوره لنسخة تنويعية على المقام ذاته. لكننا في المملكة بتنا نشهد نقلة في طبيعة هذا التمرد، لأنه قد انتقل إلى مستوى "المؤسسة" بعدما كان مقصوراً على المستوى الفردي.
هل نقصد هنا المؤسسة الشرعية؟ أجل، ولكن ليس حصرياً. فمؤسسة المجتمع ككل تبدو أكثر تقبلاً -أو توقعاً- للحالة المغايرة التعددية. الصورة النمطية للسعودي هي في سبيلها للتفكك وإعادة التشكل لتظهر محلها صورة أكثر انفتاحاً وقبولاً للآخر. وهذه ملاحظة مشاهدة ويمكن إسقاطها على حالة المواطن السائح والمبتعث وحتى صاحب العمل كفيل المقيم الأجنبي. هناك نزعة للخلاص من القشرة القديمة واستكشاف آفاق أخرى أوسع للقيمة الإنسانية وللمفاهيم البشرية المشتركة.
ألا يعد هذا الكلام وصفاً آخر للانسلاخ عن الموروث؟ وألا يعتبر هذا شيئاً سيئاً على أساس أن لكل مجتمع ولكل أمة خصائصها وسماتها التي لا يجدر أن تتخلى عنها لتنصهر في بوتقة سواها؟ هذا بالضبط ما نحاول أن نشرحه هنا.. وحول هذا المحور يدور الجدال والعراك الذي نشهده على المستوى المؤسساتي. لأن علينا جميعاً أن ندرك أن سمات أي مجتمع هي خليط من موروثه الشخصي ومن نتاج تلاقحه مع العالم الخارجي. والمأخذ على مجتمعنا "الخصوصي" كان دوماً متعلقاً بإغراقه في المحلية وبانكفائه الممل على قيمه الذاتية حد رفض العالم الآخر بكل تنوعه وكل الفائدة التي قد يقدمها لنا باختلافه عنا. انكفاؤنا على الذات والذود عن حياض منهجنا جرنا جراً عبر السنين لتبني رؤية شمولية إقصائية للحياة.. ولتبني نظرة فوقية نرمق بها كل من هو سوانا وكل من لا يشاركنا لون العدسة التي نطالع عبرها مسيرة الحياة.
مدعاة التفاؤل في هذا كله أننا نقترب رويداً من أن تكون لنا بصمة أكثر تأثيراً في العالم من حولنا. لأن التحدث مع باقي العالم بأكثر من لغة وبأكثر من لسان.. القدرة على قراءة اللغات التي يتحدث بها الضمير العالمي، بكلام آخر، هو مفتاح للاندماج أكثر في هذا العالم وجعله يتقبلنا ويفهمنا ويتعاطف مع رؤانا الخاصة.. وإن لم يتبنها بالضرورة.
الآن بات المواطن السعودي.. على نطاق يتسع شيئاً فشيئاً.. بات يدرك أنه ليس مطالباً بأن يؤطر الآخر على وجهة نظره. بات يعرف أنه ليس مضطراً لأن يحصر ذاته -ابتداء- في نطاق ضيق محدود من الرؤى والآراء المحددة. إن مصطلحات من قبيل "المنهج الأوحد" و"الرأي الأقوم" باتت تلقى قبولاً أقل لدى نسب متزايدة من الشباب ومن الكبار أيضاً. ولعله من العدالة القول بأن العقلية الجمعية السعودية تشهد حالياً عملية طويلة لإعادة الهيكلة، لينتج عنها مواطن أكثر انفتاحاً وتفهماً. مواطن يبادر للتفكير ولطرح الأسئلة قبل التسليم بالـ"بدهيات".
المواطن السعودي الجديد ينحو للتساؤل ولاتخاذ قراره بنفسه. وهذه -على أوليتها- تظل سمة جديدة وطارئة، ومدعاة للتفاؤل الجم ولاستشراف مستقبل أكثر ازدهاراً وإشراقاً بإذن الله.