(السياسة) رأى فيها العرب عندما نطقوها امتدادا لجذر لغوي مقترن بكلمة (قطيع، ودواب)، ورأى فيها الغرب عندما نطقوها امتدادا لجذر لغوي مقترن بكلمة (المدينة والعمران)، فهل نفكر كما يفكر الغذامي في (القدرية اللغوية)، فلا مخرج لنا من ذكورية اللغة العربية أو رعويتها، متناسين أن (فاطمة المرنيسي) سبقته في ذكورية اللغة عند (الفرنسيين)، فهل منعهم ذلك من منح الحقوق؟ دون الحاجة إلى لطميات العنف التي مارسها (محمد المحمود) حتى أدرج المتنبي ضمن أنساق داعش، متناسيا تاريخ (حرق الساحرات) في عصور أوروبا القديمة، فكيف بحرب المئة عام والثلاثين عاما؟ فهل من حقه ذلك القول باعتبار أن ما في الغرب من عنف، تاريخ مضى، واستطاعت أوروبا أن تسميه (عصور الظلام)، بينما داعش وأبيات المتنبي (التي ربما انتقاها بتحيز) ما زالت تاريخا حاضرا في وجدان البعض ممن لا يقبلون النقد أو على أقل تقدير يقاومونه، ولا يريدون الاعتراف بمضامينه العنيفة.

وهنا نستذكر أطروحات (نادر كاظم) عن (الكراهية) فنظنه تلميذا مخلصا لأنساق (الغذامي) المغلقة، ولهذا تدغدغنا مقابسات (إبراهيم البليهي) مفتوحة الدلالة والأبواب على الكفاح الدائم في سبيل الحرية برفع الجهل، وما عدا ذلك فصخرة الجهل لمن تهاون في رفعها عن كاهله، ربما نثق بأطروحة (علم الجهل) أكثر من رهاننا على أطروحات بنيوية تحيل اللغة والتاريخ إلى قضبان سجن أبدي كقدرية لا خلاص منها، لا في ذكوريتها عند الغذامي، ولا في كراهيتها عند نادر كاظم، رغم كل الترافعات اللغوية التي يسردانها بعد ذلك. لكن العقلاء يفرقون بين (التأسيس الفكري) لسجن اللغة والتاريخ وبين (مفاتيح الوهم) اللغوية لهذا السجن والتي ينثرانها كالرماد على العيون، فينتهي القارئ لكتبهما إلى الإيمان بديمومة (الكراهية) عند نادر كاظم، وديمومة الذكورية عند (الغذامي)، متناسين تحولات الدلالة ومكر التاريخ في اللغة والمجتمعات، فالعهد القديم المليء بالحروب ودعوات القتل للأغيار ما زال جزءا أصيلا في التراث اليهودي والمسيحي، فكيف استطاعوا الخروج من ربقة تراث دموي كهذا، أليست التجربة الدموية التي عاشتها أوروبا مع تفسيرات الإكليروس الدموية في حروب دامت عقودا وقرنا هي ما أنضجهم، (الواقع الدموي صنع وعيهم) في واجب التوقف عن سفك الدم، كفلسفة مادية تعري أوهام الفلسفة المثالية في أن (الوعي يصنع الواقع)، وها نحن عشنا تجربة القاعدة وداعش، فشعرنا بكثير من تفسيراتنا ووعينا الديني، وقد أصبح عاريا مكشوفا فقاومه بعض الأفراد بالإنكار كحيلة نفسية، وأما رجال السياسة فعقدوا المؤتمرات للبراءة من هذه البربرية التي التحفت الدين واستنطقت تاريخ القيح والصديد، لنرى الفجاجة فاقعة تحت راية اختارت ما يليق بها من لون (أسود)، ومكرت على القلوب المتدينة بعبارات دينية بيضاء في وسط راية سوداء.

السياسة عند الدولة الحديثة اقتصاد قوي، وما عدا ذلك إكسسوارات، فالاقتصاد القوي يقلص نسبة الجريمة دون الحاجة إلى زيادة العقوبة، والاقتصاد الضعيف يزيد نسبة البطالة وستزيد معها الجريمة مهما زادت العقوبة، فأحكام جعفر نميري (الشرعية) التي انشغلت عن التدهور الاقتصادي بقطع الأيادي، تناست أن مجاعة عام الرمادة لا تعترف بقطع اليد، فالدولة اقتصاد منذ (لو منعوني عقال بعير) فكيف بزمن الرأسمالية، والاقتصاد تنويع مصادر دخل، ومصادر الدخل المتنوعة تستلزم ثقافة اجتماعية تتجاوز معنى السياسة الوارد عند العرب في أول المقال، إلى معنى السياسة عند الغرب في تنمية المدن والعمران، لتخرج الرعويات من فضاء (الجماعات) البدائية إلى فضاء (المجتمعات) المتحضرة، ومن أنساق (الرعية) المنغلقة على نفسها، إلى حياة (المواطنة) المحافظة على وعيها، المنفتحة على الحياة والحضارة الإنسانية.


من المؤلم أن تمضي قرابة الثمانية قرون على كتاب (مقدمة ابن خلدون)، وما زال العربي يجد ذاته في أطروحات هذا الرجل ولم يستطع تجاوزها إلى ثقافة (المدينة)، فهل الأعرابي ما زال يركض بداخلنا كقدر لازب لا فكاك منه، رغم ما قام به رجال السياسة من توطين للبدو فيما سمي (الهجر)، كنواة لتعليم البادية معنى (المدينة) الذي حلم به الفارابي قبل ابن خلدون بستة قرون، ليأتي ابن خلدون فيدرك أن الأزمة في (القيام مع القدرة) ولا قدرة بغير (عصبية)، فكأنما التعصب والعصبية نواة للجماعة العربية بدلا من (العقد الاجتماعي) في (المجتمع) الذي أمسك الغرب بقوانينه، ونحن في تيه جديد من نزاع (تحكيم كتاب الله) الذي بدأ على يد الخوارج في زمن الخلافة البكر، وصولا إلى زمن سايكس بيكو، فكيف نرمي عجزنا على الماسونية كوهم جديد بدلا من وهمنا القديم في (ابن سبأ)، فكأنما (نظرية المؤامرة) حيلة رخيصة من حيل العقل البليد كي لا يفكر، ليصبح ابن سبأ أذكى وأقدر من كل الصحابة، وتصبح الماسونية أذكى وأقدر من كل دول العالم من أميركا غربا حتى الصين شرقا.

(نظرية المؤامرة) تصلح لحشد الجماهير، تصلح لتشتيت الانتباه، تصلح لكل كسالى التفكير، لكنها لا تليق بالآراء الرزينة في قاعات المعرفة والنقاش العلمي، ولهذا لم تنشغل أميركا كثيرا بسؤال (لماذا يكرهوننا) بعد أحداث سبتمبر، بل أدركوا أن الكراهية أخت الجهل، ففتحوا جامعاتهم للبعثات، وناقشوا نشأة الغيتوهات الإسلامية على هامش المدن الأوروبية، ولم يزالوا يواصلون (الاستشراق المعرفي) الذي بدأ في نظري منذ تعلقهم بابن رشد وابن خلدون، أي قبل (الحمولة الكولونيالية) التي يستجرها كثير من المثقفين بزعامة عرابهم الراحل (إدوارد سعيد)، وما زلنا نواصل (الاستغراب السلفي) ضدهم، عاجزين عن استدماج نظرية العقد الاجتماعي أو حتى النظر لمعطيات مونتسكيو، فأوهام اليهود والنصارى التي تخلصوا منها بالعلم والعمل، لبسناها نيابة عنهم لنكرر على أنفسنا ولو ضمنا ودلالة بأننا (نحن أبناء الله وأحباؤه)، بل نحن بشر ممن خلق.