أن تمتشق الحناجر صرخات الغضب وتخرج الجماهير إلى الساحات العامة شاهرة حاجتها للتغيير فإن ذلك وحده ربما أطاح بقادة نظم سياسية في هذا البلد أو ذاك، لكنه لا يرسم مساراً واضحا عن ماهية الأهداف المطلوب إنجازها، ولا يحدد ماهية السبل والوسائل التي يتعين انتهاجها للوصول إلى مكاسب حقيقية تترجم تطلعات الشعوب المقهورة وتلبي متطلباتها المصيرية ذات الصلة بالرغد والحرية والمساواة.
إننا لا نقلل من أهمية النتائج التي بلغتها ثورات الربيع العربي، ولا ننتقص من شأن التضحيات العظيمة المقدمة على هذا الصعيد، لكننا في المقابل معنيون بوضع هذه الثورات موضع التقويم والمراجعة، منطلقين في ذلك من قناعة مطلقة بأن أي إنجاز تاريخي إنما يكتسب قيمته من إحساس الناس بمردوده الإيجابي على وعيهم الثقافي ومناهجهم التربوية واحتياجاتهم المعيشية. أليس في وسعنا إلقاء نظرة فاحصة على سطح المتغيرات التي واكبت ثورات الربيع العربي لندرك عميقاً مدى الضرر الناجم عن تغييب رسالة المعرفة ووضع مظاهر وأعراض الاضطرابات والصراع بدلا عن روح الثورة حين لا تفضي إلى سجالات تنويرية تستكشف فلسفتها وتعبر عن عمقها الفكري ورؤيتها السياسية؟
لم تكن المسألة ضمن مرئيات الثوار، كما لم يكترث المثقف العربي بتأصيل البعد الروحي للثورة، إذ جرى اقتياده إلى حلبة الصراع على السلطة وبدأ دوره في الاتجاه الآخر من طبائع المكابرة ومثاقفات العقل المأزوم.. إنه يصوغ معادلة الانحراف بالثورة مقابل الحصول على قدر من الحظوة والثناء لدى وصائف الاستبداد الذي عاشته مجتمعاتنا في ماضيها القريب.
الذين أشعلوا الشرارة الأولى لم يحتاجوا إلى مفكرين وقادة أحزاب يرسمون طريقهم لإسقاط النظام. كانت مشاعر الغبن محركهم الأول، وإذا قدر لهذا الربيع أن يرزق بمؤرخين منصفين فإن أول شيء سيلفت اهتمامهم طريقة الشباب وهم ينسجون خطتهم بعيدا عن أعين أطراف الصراع التقليدي، وبعيداً عن المثقفين السياسيين. لقد كان هؤلاء من مثقفي وسياسيي الأمة ضمن إرث الماضي قبل أن تتعرض الثورة بنقائها الوطني وإشراقاتها الإنسانية لعمليتي استهداف مزدوجتين- متصلتين ومنفصلتين- في وقت معاً، الأولى قذائف وقناصات رأس النظام باستهداف حياة الثوار والثانية خروج أحزاب الوجه الآخر للسلطة وقطعانها الهائلة لتكتسح الساحات بهدف تغيير مجرى الثورة ومسارها والسطو على قرارها لصالح ما سمي بعد ذلك بالأزمة السياسية، وصولا نحو مركب ملتبس من التسويات.
يرتفع منسوب الانقسامات في صفوف الثورة المصرية بجريرة السياسة المصابة بالزكام، وتدخل ليبيا في نفق المواجهات الاجتماعية والجهوية لذات السبب..على حين يعود الرئيس اليمني السابق علي عبدالله صالح إلى واجهة الأحداث مسنودا بحصانة استثنائية ومعززاَ بحلفاء جدد من خوارج الثورة! لم تكن طلائع الثوار وذوو السبق إلى ميادينها معنيين بالالتفات إلى الوراء.. الصدور العارية تواجه الرصاص بأنفة الأنقياء من مكر السياسة وضغائن السياسيين.. كان بعضهم يرتدي كفنه ويذهب للمشاركة في الأنشطة الاحتجاجية دون غطاء سياسي.. هم تحديدا ضحايا منظومات الفساد ويعتبرون الاحتراس من مكر السياسة أو الاستدارة إلى الخلف جبناً لا يليق بأخلاق الثوار. وبمقدار ما عبر هذا التصور عن شجاعة هؤلاء فإنه لا يعدو أن يكون سذاجة مكنت الاستبداد الصديق من إلحاق الأذى بالثورة وطعنها من الخلف في عمل قد لا يكون المقصود به خدمة سلطة الحاكم لكنه بما يستنتج من نتائج أدى مثل هذه الخدمة، ولهذا سقط الحاكم واستدام إرثه، وفي أحايين أخرى جرت مراسيم اختراعه على أكثر من هيئة وبأكثر من صعيد.
بين ما كان عليه حال الثورة في أوج زخمها ورأس النظام يطلب منها الأمان على حياته، وما صارت إليه في ظرفها الراهن وهي تستنجد لطلب تأمين نفسها من ضرباته الموجعة.. بين هاتين المفارقتين يقف السياسي المتخم بإرث الصراع وثقافة المخاتلة مراوحاً، يبرر أخطاء سابقة وبمرور خطايا لاحقة في متوالية الحصار المضروب حول آمال الشعوب ومصالحها.
على أن هذا يجعلنا نسأل بإلحاح: لماذا أخلى المثقف مكانه ومكانته لمصلحة السياسي المتثاقف؟ هل لأن الاستبداد واختلال القيم ألغى رسالة المعرفة وأفرغ المثقف من مبادئه وأخلاقيات المعرفة والتزاماتها تجاه العدل والحرية والمساواة؟ وهل تظل الثورة رهنا لمحركات القهر ومظلوميات المجتمع، معزولة عن سلطة الثقافة ومواجهاتها الواعية؟ ولماذا لا تمثل ساحات التغيير فضاءً مفتوحاً لجدليات منفتحة تثير الأسئلة وتفتح بوابتها لشراكة واسعة تعنى بترويض الواقع على استيعاب إجاباتها؟.. على أن الثورات الربيعية ليست ولن تكون مخاضاً استثنائياً عما نعلمه في تاريخ كل الثورات التي يخطط لها الشجعان وينفذها المعدمون ويقودها الانتهازيون، كما زعمت مقولة لم أعد أتذكر نسبها.. وما لا شك فيه أن مخاضات الربيع صادفت ظرفاً دولياً سانحاً تتجه رياحه لصالح التغيير، وكان بمقدور المثقف الأصيل أن يجدد انتماءه لقيم الحداثة ويضفي على جدار الثورة لوحاته الجمالية ولمساته الإبداعية، وأن يملي شروط المعرفة على السياسي (الدوغما)، لا أن يكون تبعا له يتأول الأحداث ويتجنى على الحقائق ويشارك في سيناريوهات الانحراف بمسار الثورات لتغدوا فيما بعد مزيجا من مناورات السياسيين ومداهنات مثقفين صادرتهم السياسة!