تشهد منطقة الخليج مزيجاً من الأحداث الهامة والمثيرة. فالولايات المتحدة، التي تفتقد لإستراتيجية متماسكة للتعامل مع إيران ويبدو أنها منشغلة بأمور تمنعها من تطوير مثل هذه الإستراتيجية، تعمل جاهدة لتجد طريقها ضمن المشهد السياسي العراقي وهي تحاول أن تصل إلى اتفاقية مع الحكومة تسمح لواشنطن بالحفاظ على وجود عسكري ذي معنى في هذا البلد بعد نهاية 2011. وفي الوقت نفسه تتجه السعودية نحو إيجاد حل مقبول يضمن الحد الأدنى من علاقات حسن الجوار مع إيران دون المساس بمصالح السعودية ودول الخليج الأخرى. أما إيران فيبدو أنها تحاول الاستفادة ما أمكن من هذا الوضع على المدى القريب وهي تسعى لإعادة تشكيل توازن القوى في أهم منطقة للطاقة في العالم. لكن القوة الإيرانية ليست عميقة ولا مطلقة. فطهران تجد نفسها في مواجهة سباق مع جدول زمني يتمحور ليس فقط حول قدرة الولايات المتحدة على تحويل انتباهها من حروبها الدائرة في الشرق الأوسط، ولكن أيضاً على قدرة تركيا على استعادة دورها الإقليمي التاريخي. وقد نشرت مؤسسة "ستراتفور" الأميركية للأبحاث في يوليو الحالي دراسة حول الوضع الراهن في الخليج وأدوار أهم اللاعبين في هذه المنطقة الحساسة من العالم.
الوضع الإيراني
قال وزير الدفاع الإيراني أحمد وحيدي خلال المؤتمر البحري الإستراتيجي الأول في طهران، والذي عقد في 13 يوليو الحالي، إن الولايات المتحدة تسعى لـ"دق إسفين بين الدول الإقليمية بهدف منع قيام ترتيب أمني أصيل في المنطقة، لكن تلك المحاولات ... لن تنجح". وكان وحيدي يتحدث من منظور وحلم إيراني تسيطر بموجبه إيران على الشؤون المحلية السياسية والاقتصادية والعسكرية في منطقة الخليج بشكل كامل، وذلك على حساب السُنة الذين سيطروا على منطقة بين النهرين وشرق شبه الجزيرة العربية والهلال الخصيب منذ القرن السادس عشر، عندما خسرت الإمبراطورية الصفوية العراق لصالح العثمانيين. ترى إيران أن هذا الوضع يعكس تطوراً طبيعياً للأحداث في المنطقة، وهو يستحق أن تنتظر من أجله قروناً من الزمن. ومن المفارقات أن إيران مدينة بوجود هذه الفرصة لعدوين رئيسيين من أعدائها: تنظيم القاعدة الذي نفذ هجمات 11 سبتمبر، و"الشيطان الأكبر" الذي أسقط نظام صدام حسين. إذا تمكنت إيران من ملء فراغ القوة في العراق فستضمن أمن خاصرتها الغربية من جهة، وكذلك تضمن وجود منفذ غني بالنفط تستطيع من خلاله توسيع دائرة نفوذها.
خطة إيران تبدو أنها تسير وفقاً لما تشتهي، حتى الآن على الأقل. وما لم تتمكن الولايات المتحدة من ضمان وجود قوات عسكرية جوهرية في المنطقة، فإن إيران سوف تحل محل الولايات المتحدة كأقوى قوة في المنطقة. بشكل خاص، تمتلك إيران القدرة العسكرية لتهديد مضيق هرمز وكذلك تمتلك شبكة سرية من الناشطين الذين ينتشرون عبر المنطقة. من خلال اختراقها العميق للحكومة العراقية، تمتلك إيران أيضاً أفضل موقع للتأثير على صناعة القرار في العراق. والصعوبات التي تواجهها واشنطن في التفاوض على تمديد نشر القوات الأميركية في العراق دليل على تصميم إيران على تأمين خاصرتها الغربية. الملف النووي الإيراني هو مجرَّد قضية ثانوية؛ الردع النووي، إذا تم الحصول عليه بشكل فعلي، سيعزز أمن إيران بلا شك، لكن الأهم بالنسبة لإيران هو تقوية وضعها في العراق. وكما أظهرت التحركات الإيرانية العسكرية إلى داخل الأراضي العراقية مؤخراً بحجة قتال المسلحين الأكراد، فإن إيران مستعدة للقيام بعروض مدروسة بين الحين والآخر لنقل الرسالة.
لكن إيران تحتاج لأمرين أساسيين لاستكمال الصورة الإيرانية لما تعتبره "ترتيباً أمنياً أصيلاً". الأول هو الوصول إلى تفاهم مع الولايات المتحدة يؤدي إلى إضعاف السُنة في العراق ويوسِّع حقوق الطاقة الإيرانية إلى ما وراء حدودها ويحد من النشاطات العسكرية الأميركية في المنطقة، كل ذلك مقابل ضمان تدفق النفط إلى أميركا عبر مضيق هرمز وتعهد إيراني بأن لا تهدد أمن السعودية وحقول النفط الخليجية. الأمر الثاني هو الوصول إلى تفاهم مع السعودية يؤدي إلى إقناع السعودية بعدم جدوى الوقوف في وجه إيران، خاصة أن الولايات المتحدة لا يبدو أن لديها الوقت والموارد الكافية لنجدة دول الخليج في الوقت الحاضر في حال تعرضت لهجوم من قبل إيران. هدف إيران هو مضايقة السعودية وإجبارها على الاعتراف بمنطقة موسعة من النفوذ الإيراني في الوقت الذي بدأت فيه الضمانات الأمنية الأميركية في المنطقة بالاضمحلال.
بالطبع هناك دائماً فجوة بين النية والقدرة، خاصة في حالة إيران. كلا الأمرين يفتقدان للثقة ولذلك فإن التقدم على أي من المسارين ليس مضموناً.
الوضع السعودي
من الطبيعي أن تشعر السعودية بالقلق إزاء تطور الأحداث في العراق. وسيسعى السعوديون لإيجاد نوع من التوازن أمام إيران في العراق... هناك مؤشرات عديدة على وجود بدايات تقارب بين السعودية وإيران، ولفهم أسباب ذلك يجب فحص المفهوم السعودي للوضع الأميركي الحالي في المنطقة. السعوديون لا يستطيعون أن يثقوا بشكل كامل بالنوايا الأميركية في هذه المرحلة. الوضع الأميركي في العراق ضعيف وليس من المستبعد أن تدخل واشنطن في ترتيبات خاصة مع إيران تضمن المصالح الأميركية التي تتلخص في ثلاث قضايا رئيسية: الحفاظ على تدفق النفط عبر مضيق هرمز، تقليص عدد القوات الأميركية التي تقاتل السُنة في العراق، ومحاولة إيجاد توازن قوى في المنطقة يمنع أي دولة من السيطرة على كامل مصادر النفط في الخليج. الوضع الأميركي مرن بهذا الخصوص، وإذا توصلت الولايات المتحدة إلى قناعة بأنها لا تمتلك خيارات جيدة على المدى القريب للتعامل مع إيران، فإن الوصول إلى توافق إيراني- أميركي ليس أمراً مستبعداً.
المفاوضات الأميركية-الإيرانية
الأمر الأكثر إلحاحاً في الوقت الحاضر هو المفاوضات بين الولايات المتحدة وإيران حول وضع القوات الأميركية في العراق. إيران ترغب في أن تنسحب القوات الأميركية بشكل كامل من العراق، وقد شهدت مؤخراً تخفيضاً كبيراً لهذه القوات. السؤال يكمن الآن في حجم ومهمة القوات الأميركية الباقية، وكذلك في سرعة تحول مهمة هذه القوات من مجرد دور استشاري مساند إلى قوة اعتراضية أمام إيران. ولتعزيز أي توافق محتمل مع إيران، على الولايات المتحدة أن تحافظ على قوة ردع أمام إيران، وهذه هي النقطة التي يبدو أن المفاوضات الأميركية-الإيرانية توقفت عندها.
تصريحات وزير الدفاع الإيراني بأن الولايات المتحدة قد فشلت في إقامة نظام أمني مستدام في منطقة الخليج، وأن من غير الممكن أن تستطيع بضع سفن أن تحافظ على وجود دائم في المنطقة، تهدف لنقل رسالة إلى الإيرانيين ودول المنطقة بأن الضمانات الأمنية الأميركية في المنطقة ليس لها وزن حالياً، كما كان عليه الحال في السابق، وأن إيران تقوم الآن بملء الفراغ. السؤال الذي يبرز بشكل طبيعي من تصريحات وزير الدفاع الإيراني هو وضع الأسطول الخامس الأميركي الموجود حالياً في البحرين، وفيما إذا كانت إيران قادرة على هز أسس الوجود الأميركي في المنطقة. حالياً لا يبدو أن إيران تمتلك القدرة العسكرية الكافية لتهديد دول مجلس التعاون الخليجي لدرجة تجبر هذه الدول على التخلي عن الضمانات الأمنية الأميركية مقابل امتناع إيران عن تهديد أمن هذه الدول.
السيناريو بعيد المدى
الحراك الحالي يضع إيران في وضع جيد. استثمارها السياسي بدأ يثمر في العراق، وهي تستعد للتفاوض مع السعودية والولايات المتحدة أملاً في توسيع دائرة نفوذها الإقليمي. لكن القوة الإيرانية ليست دائمة على المدى البعيد. إيران غنية بموارد الطاقة، لكن عدد سكانها كبير وطبيعتها جبلية. تكلفة التنمية الداخلية تعني أن إيران قد تتمكن من تأمين عيش مقبول لشعبها، لكنها لن تتمكن من الازدهار مثل باقي دول الخليج العربية. أضف إلى ذلك أن الإيرانيين من الإثنية الفارسية لا يشكلون إلا نصف عدد السكان في إيران أو أكثر من ذلك بقليل، وهناك تحديات متزايدة لحُكم رجال الدين، وهذه الأمور تسبب مشاكل داخلية للنظام الإيراني يشتت انتباه مسؤوليه عن الفرص في الخارج.
ومن ناحية ثانية، فإن الصورة الإقليمية على المدى البعيد ليست في مصلحة إيران. فتركيا دولة صاعدة تمتلك قوة عسكرية واقتصادية وسياسية للتأثير على مجريات الأحداث في الشرق الأوسط. كما أن تركيا تاريخياً تشكل القوة التي تقف في وجه القوة الفارسية. ومع أن تركيا تحتاج بعض الوقت للعودة إلى هذا الدور، إلا أن هناك مؤشرات قوية بأنه قد بدأ يعود، خاصة في العراق وسورية. حالياً لا تبحث تركيا عن مواجهة مع إيران، وقد لا تكون مستعدة لهذا بعد. القوى الإقليمية تسرع صعود تركيا، لكن الأمر يتطلب للخبرة وضغوطات إضافية لتتمكن تركيا من ترجمة الكلمات إلى أفعال.