لكن، هناك نوع جديد من فقدان الذاكرة، قد يأتي لبعض المسؤولين، ربما نطلق عليه «فقدان ذاكرة الكرسي!».
يكون الشخص مثاليا وواقعيا ويتحدث بعقلانية، وبالعامية «حليل وحبوب وعقلاني»، وفجأة يُعيّن في منصب، والناس تتفاءل خيرا، ثم تصيب المسؤول الجديد حالة غريبة سميناها «فقدان ذاكرة الكرسي».
يبدأ المسؤول العزيز، ينسى غالب ما كان يدعو إليه، وينسى كل انتقاداته السابقة للوضع، ويبدأ يستخدم كليشة أنه الآن في موضع المسؤولية.
نحن نعرف جيدا أن الوضع والظروف في موضع المسؤولية، يختلف عمّن ينظر من الخارج، لكن أن يتغير 180 درجة، وينسى حتى البدهيات والمبادئ وعصارة أفكاره، فهنا المشكلة. وكيف نعرف أن هذه مجرد حجج واهية، فعندما يتم إعفاؤه أو تقاعده ترجع إليه الذاكرة والمثاليات!.
أذكر كثيرا من المسؤولين عندما أزورهم بعد التقاعد أو الإعفاء، يشكون من انفضاض الناس من حولهم، وتغيّرهم عليهم حتى المقربين، وكنت أذكّرهم وأقول -إذا كانوا ممن يقبل النقد بصدر رحب- ماذا تتوقعون وأنتم التف حولكم «المصلحجية» والمتسلقون، قرّبتموهم إليكم، وأبعدتم كل ناقد أو ناصح!.
ظاهرة «فقدان ذاكرة المنصب-الكرسي» تتمحور حول 3 أسباب:
أولا: جوقة المطبلين والمتسلقين، وهم جماعة في كل وزارة أو إدارة، شغلهم الأساسي، الإبداع في التطبيل والتزلف و«الترفيع بالمسؤول»، حتى يظن المسؤول أنه حكيم ووحيد زمانه. هؤلاء المطبلون لو يستخدمون جزءا من إبداعهم في التطبيل، في عمل الوزارة أو الإدارة لتحسنت الخدمات، وهؤلاء أول من ينفض وينقد المسؤول بعد إعفائه، ويقولون: «اللي بعده»، ويستعدون بالتحمية والتطبيل للمسؤول الجديد، وهم يعزلون المسؤول عن محيطه.
ثانيا: ظاهرة البرج العاجي أو القوقعة الصوتية. عندما يعزل المسؤول عن محيطه، ويسمع باستمرار عبارات المديح والثناء والتملق، ويبعد عنه أي نقد أو واقع، وتُنفخ أعمال عادية وتُصور وكأنها إنجازات، ويتردد عليه صدى واحد، يدخل فيما يشبه مصلح «غرفة الصدى»، فينسلخ عن الواقع والناس، ويطير في الهواء رغم المشكلات، وفجأة يسقط على وجهه بعد الإعفاء.
ثالثا: تصوير العداوات ونظرية المؤامرة. كل من ينقد حتى لو كان نقدا واقعيا، هو عدو أو يبحث عن مصالح، وتقوم الجوقة حول المسؤول، بزرع أفكار نظرية المؤامرة، وأن هؤلاء أعداء النجاح ولا «تعطيهم وجه... إلخ»، فيصمّ أذنيه عن كل نقد، ويعتقد أنه أتى بما لم يأت به الأوائل، ثم ينزل عليه الإعفاء كالصاعقة، ويدخل في حالة إنكار، لماذا أُعفي؟ وأنه كان أفضل مسؤول؟ ويبدأ من حوله يصارحونه بالحقائق، وأنك «خربت الدنيا...»، ويكون فات الفوت!.
دعوني أعترف أني أحب في عهد سيدي «أبو فهد»، وولي عهده «أبو سلمان»، أن الإعفاء سريع لمن لا يعمل ولا يحقق التطلعات. ميزة هذا العهد، من لا يحقق الهدف يمشي!، والأجمل أن هناك مراقبة مستمرة لأداء المسؤولين. سابقا، كان المسؤول يلتصق بالكرسي لسنوات كأنه «لصقة أسد» دون عمل يذكر!.
لكن الشيء الغريب جدا، أن كثيرا من المسؤولين يعينون، وأكثر من مرة نقول لهم ونعيدها «يا جماعة الخير لا يوجد مسؤول»قالط«أو مقرّب، سيدي»أبو فهد«و»أبو سلمان«، يقيّمان المسؤول على أدائه فلا أحد يغتر»، ومع ذلك -للأسف- بعض المسؤولين تنسيه حالة «فقدان ذاكرة الكرسي»، أو غيبوبة المنصب، هذه العبارة فيكون أداؤه أقل من المطلوب، فيعفى ويُصدم من انفضاض الناس من حوله.
يا عزيزي نعيد ونكرر، المنصب تكليف وليس تشريفا، اخدمْ البلد وأَبعدْ جوقة التطبيل، وكنْ واقعيا أو ارحل غير مأسوف عليك.
الشيء الذي لا أستطيع فهمه في هذه القضية، هو كيف يرضى الشخص أن يصبح طبّالا، وقد أنعم الله عليه بوظيفة محترمة؟. هؤلاء الطبالون والمتسلقون بكل بجاحة «وعراضة وجه»، يقول أحدهم ويعترف أنه متسلق من أجل «يمشّي» مصالحه وترقياته، وللأسف ماشي وضعهم في كثير من الدوائر، وبعض المسؤولين يعرفونهم ويقولون: «ما يخالف، لأنه ما يخاف منه، وطبّال ويعرف يعزف على النغم الذي أحبه!»، وكأنها مهارة خارقة.
الطبّال له صفات خاصة، أولا: لا يستحي وبالعامية «وجه مغسول بمرقة»، رغم أن بعضهم في منصب عالٍ مقارنة بأقرانه.
الشيء الآخر: لازم كل مرة قبل ذكر المسؤول «يرص ويصفط» ألقاب المسؤول حتى كأنك تشعر «شوي إلا يقول الحاكم بأمره»، ويروح غالب النقاش في تعديد أسماء وألقاب المسؤول دون فائدة من الحديث، حتى تقول «ليته يسكت».
ثالثا: تجده ملتصقا بالمسؤول أينما ذهب، من أجل عمل جوّ للمسؤول «وكأنه هيبة». الحمد لله، البلد أمان وما يحتاج كل هذه الفرقة تمشي أمام وخلف المسؤول.
الصفة الرابعة: المبالغة، وقد تصل إلى الكذب البجح والتفخيم، ومستعد ليكتب شعرا في كحة المسؤول.
خامسا: عدم احترام الناس وقلة الأدب مع العامة، وضعف في الفكر والعقلية.
أذكر، قابلت قبل سنوات بعض المسؤولين في أماكن مختلفة، فوجدت الجوقة نفسها، رغم اختلاف الأماكن والإدارات والمناصب، إلا أن الصفات مشتركة بين جوقات التطبيل. في بعض الأحيان الواحد يشعر بالتقزز، المدح الزائد مسبة، خصوصا إذا كان في غير محله، ولمن لا يستحقه.