من أغرب ما سمعته من الآراء أخيرا، رأي لأحدهم فُسح له المجال على شاشة فضائية في أحد البرامج الحوارية ليقول بملء فيه «التعارف قبل الزواج متاح في حال عدم تجاوز المحاذير الشرعية»!.

ولست أعلم كيف لنا أن نحدد المحاذير الشرعية هنا حتى نقول لشابين «ولد وبنت» تعارفا في سوق أو في مكان عمل والتقيا، نرجوكما توقفا فقد تجاوزتما المحاذير الشرعية!، والله إن الأمر كما يبدو لي - وأقولها قبل أن أشرع في تسجيل رأيي - أننا بحاجة إلى وقف هؤلاء وبصرامة، ومحاسبة الجهات التي تفسح لهم المجال لينفثوا تلك الأفكار والآراء التي يعدونها فتاوى، حتى لا يدخلون المجتمع في حيص بيص، ويُوجدون حلبات من التجاذبات والصراعات الفكرية بحجة أن لهم الحرية في قول ما يرونه، واقتراح ما يحلو لهم مع أن الدين واضح وضوح الشمس في رابعة النهار كما تقول العرب.

وأنا هنا أريد أن أسأل هذا ومن هم على خطاه في تبني هذا الرأي، فلعلهم يظنون أن التعارف الذي يقصدونه سيقلل من أعداد حالات الطلاق التي تتصاعد أرقامها في مجتمعنا، حتى بلغت في بعض الأعوام «حالة طلاق مقابل كل حالتي زواج»، ولهذا فأنا أسأل دعاة التعارف قبل الزواج، وهي دعوة مرفوضة في مجتمع محافظ، ولن تقبل بها أي أسرة، ألم تسمعوا بقصص من الحب والهيام وعلاقات الغرام تتم بين شخصين قبل الزواج، حتى تحولا إلى قصة من قصص ألف ليلة وليلة تملأ عناوين الفضائيات في بعض الأحيان، ثم بعد زواجهما الذي لم يدم أشهرا أو سنوات لو قلنا هذا في أحسن حالات التفاؤل، تحولا إلى قصة من قصص الطلاق التي تصدرت الأخبار، وتزينت بها أغلفة المجلات، فهل نجح التعارف قبل الزواج في أن يجعل زواجهما يدوم لأنهما عرفا بعضهما وتحدثا إلى بعضهما وتغزلا ببعضهما إلى حد جعلهما يكتشفان بعضهما بعضا، وأنهما يليقان ببعضهما كزوجين، ثم فجأة يكتشفان أنهما لا يصلحان لبعضهما ويفترقان!.. أهذا كلام يقبل بربكم؟!.


ومن قال إن التعارف قبل الزواج سيجعل كل طرف يبدو على طبيعته بخلاف أساليب الزواج التقليدي الذي كلنا مررنا به كمجتمع له عاداته وتقاليده ويحترم تعاليم شريعته، مجتمع محافظ يعلم أن ليس كل تقليعة أو عادة أو موضة في مجتمع ما تصلح لأن تكون مقبولة أو صالحة له أو لأبنائه، ومن قال إن التعارف قبل الزواج لن يبني علاقة من الشك مستقبلا بين الزوجين لأنها بنيت على علاقة خارج الإطار التقليدي، فنحن في شريعتنا الغراء تعلمنا أن البيوت تبنى على السكن، وأن عمادها «المودة والرحمة»، وهذه لا تأتي إلا بعد العشرة الزوجية، قال تعالى «ومن آياته أن خلق لكم من أنفسكم أزواجا لتسكنوا إليها وجعل بينكم مودة ورحمة»، والمتأمل في حياة الآباء والأمهات يجد أن بيوتهم بنيت على عماد من الحب والاحترام والتقدير، وتربي أبناءهم تربية صالحة وتحقق أحلامهم، مع أنها زواجات تمت بأساليب تقليدية.

حقيقة أنا لا أبالغ ولا أذهب بعيدا إذا ما قلت إن من يدعون إلى التعارف بين الشباب قبل الزواج في المراكز التجارية أو في بيئات العمل، واقعون تحت «تأثير ما يشاهدونه في المسلسلات التلفزيونية» التي تظهر تلك المشاهد الغرامية من العلاقات التي تنشأ بين بطلي المسلسل، وكأنها حقيقة يمكن مشاهدتها في المجتمع وتطبيقها، وتتخللها حكايات ولقاءات لا تعدو أكثر من كونها أحداثا تخيلية مبالغ فيها لا نراها إلا في الروايات التي تقوم حبكاتها على اختلاق الحكايات والإثارة، ولو اطلع دعاة التعارف قبل الزواج على دراسات عن المجتمعات الغربية المنفتحة وبعض المجتمعات العربية أو سمعوا من أهل تلك المجتمعات حول تلك القضية لوقفوا على نتائج صادمة لهم في حالات الطلاق وأشكال العلاقات الشائكة بين الجنسين، ولأدركوا أن الزواج بالطرق التقليدية لدينا نعمة، فلا تفتحوا أبوابا مغلقة قد يستغلها بعضهم تحت ذريعة فتاوى هؤلاء الذين يسمونها تهربا آراء شخصية.