بعد ما يقرب من ثلاثة أشهر على تنحي الرئيس مبارك عن سدة الحكم، قمت بزيارة لأرض الكنانة، وكان الحراك الشعبي في ساحة التحرير لا يزال متواصلا، والحدث المحتفى به هو الذكرى الثالثة والستون لنكبة فلسطين، وقد حرضت المسافة القصيرة بين فندق سمير أميس الذي كنت أقيم به وميدان التحرير على الخروج، ومراقبة المشهد عن قرب. في الميدان رفعت أعلام مصر وفلسطين تعبيرا عن تضامن شعب مصر مع معاناة أشقائهم الفلسطينيين، وهتف المتظاهرون للقدس ولحق العودة.
وعلى هامش الحدث جمعني لقاء مع بعض المثقفين المصريين. ودار الحديث حول التطورات التي لم تزل آنذاك في بداياتها. وتركز النقاش حول ما يمكن أن يحمله المستقبل، وتوصيف ما يجري من تحولات دراماتيكية في الوطن العربي، بدأت في تونس وانتشرت بوقت قصير، كالهشيم لتعم عددا كبيرا من الأقطار العربية. هل ما تشهده الأمة هو مقدمة لتحولات سياسية واجتماعية حقيقية؟، أم إنها لحظة غضب الجمهور على عجز النخب السياسية عن مقابلة استحقاقات الناس؟
كان الأشقاء المصريون في قمة حماستهم، يسرفون في استخدام مصطلح الثورة، ولم يقبلوا بتوصيف آخر لما جرى في بلادهم أقل من الثورة. وكنت حذرا في القبول بذلك التوصيف. ومن وجهة نظري، فإن عدم التسليم بهذا التوصيف لا يقلل من أهمية الحراك الملحمي لشعب مصر. إن التعامل مع الثورة كمفهوم، هو موقف ابستمولوجي، لا تقرره كثافة الاندفاع ولا الغليان والصخب الذي يصاحبه.
في المرحلة التي أعقبت سطوة الاستعمار الغربي على الوطن العربي، استخدمت الثورة في أدبيات الفكر السياسي، بمعان مختلفة، ارتبطت في الغالب بالكفاح ضد الاستعمار، بمعنى ارتباط المفهوم بالتحرر الوطني. وليس في ذلك ضير، طالما أصبح المفهوم واضحا للمتلقي. الثورة استخدمت أيضا في القاموس السياسي العالمي، لتشير للتحول في موازين القوى الاجتماعية، وتلك صفة طبعت الثورات الاجتماعية الكبرى في التاريخ الإنساني، وبشكل خاص ثورات فرنسا وإنجلترا وروسيا والصين.
وبالعودة للحركات الاحتجاجية العربية، التي مضى عليها أكثر من عام، ولا تزال أحداثها تتداعى حتى يومنا هذا، بالإمكان توصيفها مجازا بالثورة، كونها كسرت حواجز الخوف، وعبرت برازخ القنوط واليأس، أما أنها تعنى كنس الترسبات الراكدة، وتحقيق تحولات اجتماعية كبرى في الواقع العربي، فذلك ما لا يزال في خانة التمنيات. ولا يوجد لدينا ما يشي بوجود برامج عملية لتحقيقه.
لقد اتسم الحراك الشعبي العربي، بالطابع العفوي الخالي من المضامين والبرامج السياسية والاجتماعية، فكان من الطبيعي أن تغيب هوية القوى الاجتماعية التي تصدرتها. وتلك طبيعة أي حراك عفوي.
في تونس تفجرت الانتفاضة الشعبية، بعد حادثة البوعزيزي مباشرة، وسقط النظام، ليرث المنتصرون تجريفا منهجيا للحركة السياسية الوطنية، تزامن مع إلغاء متعمد للطبقة المتوسطة، مبدعة الفكر وصانعة التحول في المجتمعات الإنسانية. لقد التحقت هذه الطبقة بالنظام البائد، وبصفقاته الاحتيالية، وارتبطت بشبكات الفساد. وجرى إفقار جزء كبير منها، وأخرجت من موقعها الاقتصادي، أما البقية الباقية، فقد وجدت في الإسلام السياسي ضالتها، وبشكل خاص في حركة النهضة، الوجه الآخر للإخوان المسلمين. وبسبب تقاطع الطروحات والمصالح بينها وبين مالكي القوة والثروة، فإنها لم تتعرض للتضييق الاقتصادي وشح التمويل. وقد ساعدها ذلك، وقوة حضورها في المؤسسات والجمعيات الدينية والمساجد، على تعزيز مواقعها وبناء هياكلها، وهيأ لها شروط الانتشار، بكل مقوماتها، كما مكنها الطابع العفوي للحركة الشعبية، من اقتناص اللحظة والتقدم إلى الأمام، وقطف ثمرة تضحيات الشعب التونسي. ولم تكن أوضاع حركة الإخوان المسلمين في مصر وبقية الأقطار العربية التي شهدت اندلاع الحركة الاحتجاجية الشعبية لتختلف عن نظيرتها في تونس.
هناك أيضا الخشية من أن تستثمر هذه الانتفاضات، والمناخ الذي تفرزه، في تحقيق اختراقات خارجية لتفتيت الكيانات الوطنية. فلم يعد سرا أن هناك مشاريع وخرائط معدة لتفتيت المنطقة. وأقصر الطرق لتحقيقها، هو استثمار حالة الفوضى التي ارتبطت بسقوط رموز الأنظمة في بعض البلدان، لتسعير الصراعات الطائفية والمناطقية، وبعث الهويات الإثنية.
لقد بدأ التلميح بمشاريع التفتيت منذ منتصف السبعينات من القرن المنصرم. وخلال مؤتمر مدريد للسلام في الشرق الأوسط أعاد وزير الخارجية الأميركي الأسبق، جيمس بيكر التأكيد عليها، بالحديث عن شرق أوسط كبير، يكون بديلا عن النظام العربي، الذي ساد منذ منتصف الأربعينات من القرن الماضي، وأثناء ذلك بدأت تسريبات أميركية، لخرائط وإستراتيجيات لشكل الشرق الأوسط المرتقب، كما أصدر رئيس الوزراء الإسرائيلي السابق، شمعون بيريز كتابا أوضح فيه تصوراته للشرق الأوسط الذي سيكون بديلا عن النظام العربي الرسمي. وجاءت محتويات الكتاب متماهية مع المشروع الكوني الذي تحدث عنه وزير الخارجية الأميركي، بيكر في مؤتمر مدريد.
كان الهجوم على برجي مركز التجارة العالمي بنيويورك، ومبنى البنتاجون في واشنطن، عام 2001م، وإعلان الرئيس بوش، الحرب على الإرهاب، فرصة ملائمة لنقل المشروع من التنظير إلى التنفيذ، وكانت بوابة ذلك هي احتلال العراق عام 2003م، والعملية السياسية التي هندس لها السفير الأميركي، بول برايمرز والقائمة على القسمة بين الإثنيات والطوائف، وإعادة تركيب المدن العراقية بالتهجير المتبادل بين الطوائف، لتؤكد دخول المشروع الكوني الأميركي، مرحلة جديدة، بمصادرة الكيانات القطرية، وتدمير مكوناتها الوطنية، وهوياتها، التي تستمد منها حضورها التاريخي، ومقاوماتها للتغريب.
وبسبب التغير في توازنات القوى الدولية لم يعد بالإمكان تكرار السيناريو العراقي، فكان لا بد من اقتناص لحظة الإعصار العربي، لحرفها عن مسارها، والمضي في تحقيق المشروع الكوني الأميركي. ذلك لا يعني تجريما للذين اندفعوا في تيار هذا الإعصار، فالعوامل الموضوعية التي أدت إلى الإعصار كامنة في رحم الأوضاع البائسة. وما نريد تأكيده هو أن هناك اقتناصا غربيا وتوجيها للأحداث، وذلك ما يفسر تطور الأوضاع السياسية بالبلدان التي طالها الإعصار، في مجتمعات فسيفسائية، تضم طوائف وأديانا مختلفة. يؤكد على صحة ذلك تزامن هذه التطورات، مع فوضى المطالبات بالفيدراليات وحقوق الأقليات الدينية والإثنية، وأنواع أخرى من الفوضى، تعيد إلى الذاكرة تعابير الفوضى الخلاقة.
لكن الدعوة لأخذ الحيطة والحذر، لا تلغي الثقة في أن التاريخ لا يعيد نفسه، فأوضاع الأمة العربية رغم كل ما يعتريها من ضعف وفوضى، تحمل في رحمها بداية انبعاث جديد، بما يؤكد استحالة إيقاف عقارب الساعة، والأمل كبير في أن تستعيد الوطنية الواعية عافيتها، وأن تقوم بمراجعة نقدية لإستراتيجياتها ومساراتها، وأن يبزع من ركام التداعي والمعاناة مواقف جديدة، تحافظ على الهوية، وتتماهى مع التحولات الكونية التي تجري من حولها، ويكون فعلها خلقا وإبداعا وعطاء وعلما.