في بادرةٍ من العمل الإيجابي، عمدتْ لجنة الفنون المسرحية بجمعية الأحساء للثقافة والفنون إلى تجميع بعض الأوراق الصحفية التي كتبها الراحل عبدالرحمن المريخي (1372 ـ 1426) المعروف بريادته لمسرح الطفل في المملكة كإنجاز تاريخي، إلى جانب اشتغاله بالمسرح مؤلفاً ومعدّاً ومخرجاً لعديدٍ من الأعمال الفنية التي بلغت ثلاثين عملاً، في رحلة استمرت نحو ثلاثة عقود حتى اختطفه الموت من بيننا بعد معاناة مع مرض السرطان.

الكتاب حمل عنوان "خبايا الذاكرة" وجاء في أربعة أقسام: (مقالات خبايا الذاكرة، من أشعار المريخي، مقولات للمريخي، لقاءات صحفية) مع مقدمة للدكتور سامي الجمعان مدير الجمعية، وخاتمة مركّزة للمخرج المسرحي زكريا المومني، وقد صاحبتْ أوراق الذاكرة لوحات تشكيلية من توقيع الفنانين محمد الحمد وراضي الطويل.

القسم الأول الذي حمل عنوانه اسم الكتاب بمقالاته القصيرة الأشبه بتأشيرات أو علامات على محطّات الذاكرة لمنطقة هي الأحساء، ولجيل ينتمي إليه المريخي فرداً وعاملاً ثقافيّا وإنسانيّا؛ بذور التكوين الذي صارت إليه رؤية الراحل وسكب عبرها أعماله الشعرية والمسرحية.

عندما أراد المريخي الكتابة تحت عنوان خبايا الذاكرة، كان همّه الجانب التنويري في مجتمعه الصغير بمعناه المنفتح على الحياة والحامل لقيمة التعدّد والتعايش ومناخ التسامح.. نقرأ التجربة، والخبرة الممتدة منذ زمن الطفولة يستقيها الكاتب مبكّراً من "مجلس الصالحية التنويري". هذا الاسم المجاز لمكان لم تؤطّره الجدران ولا الأرائك ولا المنصّة ولا الميكروفونات. محض تجمع صغير على رصيف في شارع يُقام بعد صلاة العصر يوميّا؛ يؤمّه علي المريخي ـ والد عبدالرحمن ـ وعلى بساط التواضع والبساطة ينفتح حديث المجلس ونقاشه على الحاضر وعلى الماضي بشخصيّاته من سيَر وأشعار وتاريخ. من ذلك الموضع تشرّب الرّاحل الذاكرة الشعبيّة ومرويّاتها التي تحوّلت فيما بعد بناءً مكيناً في مدوّنته الإبداعيّة؛ قوليّاً وبصريّا. وقبل هذا وذاك تفتّح الوعي على الشقّ العميق أو على الاختلاف - إنْ لم نقل التناقض - بين التاريخ الرسمي الذي تمرّره الكتب ومقرراتها وبين التاريخ المروي شفاهةً. المقصي والمحجوب والمراد نسيانه فيما هو رسمي ومعتمد للرواية، يحضر دون نقصانه في مائه الأول؛ في شوائبه التي تحوّلت إلى ضباب حاجب وعازل.

من هذا المجلس الصغير خرج المريخي بقناعةٍ أكّدتها أعماله اللاحقة (مثل: مسرحية حكاية ما جرى) أنّ التاريخ الحقيقي يحتاج إلى بحثٍ وسبرٍ وتنقيبٍ أبعد من المسطور بين دفتي كتاب: (وكم من مرّة ينتابني الذهول من سماع بعض الأحداث التاريخية التي تُروى خلاف ما قرأته في كتبنا المقررة؛ بحيث تشعر أن التاريخ الشفاهي الموروث يُقال بطريقة مختلفة عما هو مكتوب. ومن هنا تعلمت أن التاريخ المروي له معنى يفوق ما نتعلمه هناك).

"هناك" المدوّنة التاريخية. "هنا" تفكيك الحجاب عن الإنسان وألمه في ظلمة التاريخ. ولعلّ هذا ما يفسّر كتابات المريخي عن تزوير التاريخ وصوابيّة من ذهب إلى نقده ومراجعته و (ضرورة كتابته مرة أخرى بعقلانيّة وحياديّة غير قابلة للتزوير والتحريف والأهواء، التي تخضع إلى ما ترمي إليه سلطة ما، أو نفوذ شخصٍ ما، يقرّر ما يكتب ويحذف ما لا يرغب). ففي هذه الأوراق المريخيّة نلحظ المرجعيّة التي يتكّئ إليها "المثقف" عبدالرحمن المريخي ـ قبل أن يكون مخرجاً ـ والحافلة بأسماء ثار حولها الجدل وهبّت ريحُ التخاصم مثل طه حسين وحسين مروّة ونصر حامد أبو زيد وعلي حرب.. وربما هذه النظرة المختلفة إلى التاريخ والثقافة هي ما جعلتْ مقالة كاتبنا "عسكرة الشعر" ـ المنشورة في مجلة الشرق إبان رئاسة شاكر الشيخ لتحريرها في ثمانينات القرن الماضي ـ تمثُل في نفير "الولاء والبراء" في كتاب عوض القرني (الحداثة في ميزان الإسلام) دليلاً ـ ظالما في كل الأحوال!! ـ على تأسي "الحداثيين" في المملكة بـ (أصحاب الفكر الشيوعي.. أصحاب التوجّه اليساري الملحد ـ ص85).

خبايا الذاكرة شهادة على وعيٍ صنعَ مشهداً مسرحيّاً، سيظلّ محفوراً في تاريخنا الثقافي والإبداعي.

رحمك الله أبا منذر الحاضر أبداً بابتسامتك الطويلة التي لا تغيب؛ ابتسامة تخفّف عنا "صهدَ اليأس".