التصريح المثير للدهشة والشفقة بخصوص أن "دخول الشباب إلى المراكز التجارية قد يقلل نسبة الانتحار"، لم يعد مستغربا في هذا الوقت الذي أصبح قابلا لاحتمالات تبديل حالة الوعي بسهولة بالغة، كما لن يكون مستغربا أن نجد تصريحات أو دراسات تؤكد أن الانتحار سببه الرئيسي عدم الاختلاط في المراكز التجارية!

إن مثل هذه التفسيرات ساعدت الكثير من الشعوب – ليس نحن فقط - على متابعة مسيرتها الطويلة وطقوسها المختلفة في التعاطي مع الحياة من خلال الوعي الموجه. منذ زمن وهناك من يسيطر على معتقدات الآخرين بخصوص حياتهم "لا تفعلوا كذا لأنه لا يحق لكم فعل هذا، ثم افعلوا كذا لأنه لا بأس بذلك" أفكار، وإملاءات، وشكل حياة مؤطر بإطار خاص ظلت تملى على مجتمعات بأكملها فتطيع دون وعي أو تفكير، ومع مرور الوقت تحولت إلى ما يشبه المسلمات، فنشأ جيل بأكمله على أفكار وقناعات ومعتقدات كثيرة غير مبررة، وغالبا ما تكون خاطئة وتتحكم بنمط حياته بشكل محزن حتى أصبحت هي المعيار الحقيقي له وللحياة التي يسير عليها.

إن الحالة التي ستنتج من التلاعب لفترة طويلة حالة الوعي والتي تدخلت بقوة في رسم شكل الحياة بكافة تفاصيلها والآثار التي تركتها علينا أصبحت واضحة تماما، فالأفكار التي أقنعونا بأنها فرض حقيقة ذات زمن، ثم يأتون اليوم ليقولوا إنها غير خطرة وغير ضارة بنا كمثال وليس حصرا: الاختلاط ودخول الأسواق حرام ثم التحول إلى تعريفات عدة لهذا المحظور لاستكمال المتاهة التي أقحم الناس فيها فهو مرة عارض، ومرة مباح، ومرة محرم. واليوم نستيقظ على تفسيرات تثير الشفقة مثل التصريح بأن الدخول إلى المجمعات التجارية يقلل نسبة الانتحار عند الشباب. نصيحتي هنا بعد سماع مثل هذه التصريحات هو تناول النعنع المغلي"إن كنا نرغب في تهدئة وجعنا وحسب، أما إن أردنا دواء أكثر نفعا فهو تعاطي الوعي الحقيقي وليس الوعي العارض".

المسرحية تبقى ذاتها ولا شيء يتغير، والتاريخ يعيد نفسه في الكثير من التفاصيل المهمة في حياتنا. والذي تبدل هو التعليمات التي نزود بها دائما والتي تتجسد إلى قناعات نشأنا عليها كما نشأت عليها أجيال سبقتنا. ولست أعلم إن كان السبب يعود إلى أننا ضعفاء أمام من يلقون لنا بالقناعات والإيحاءات التي تتحكم في حياة الأفراد بكل معنى ولفترات طويلة من الزمن. هؤلاء المبرمجون لقناعاتنا كانت ذريعتهم وستظل الحفاظ على صحتنا العقلية وبقائنا على قيد الحياة التي يرسمونها لنا. أما إذا نظرنا إلى كل هذا من منظور آخر، فسوف نكتشف أنها في الحقيقة ليست سوى إيحاءات عملت على برمجة ما يخزنه الأفراد من قناعات مختلفة، بحيث يمكن في وقت لاحق تقتضيه المرحلة الحياتية الجديدة أن يعاد تأهيل هذا الوعي الذي تمت برمجته فيما يعرف "بحالة تبديل الوعي"، بل ويمكن تبديله من أقصى اليمين إلى أقصى اليسار أو العكس في الأيام القادمة.. وكل وعي وأنتم بخير.