حسنا فعل صلاح القرشي حين احتاط، وفتح نافذة في مطلع روايته الأخيرة "وادي إبراهيم" ردد فيها العبارة الشهيرة التي لا أعرف حقيقة متى بدأت ومن ابتدأها والتي تقول بطمأنينة كبيرة لا تخلو من الاستفزاز أحيانا "أي تشابه بين أحداث وشخصيات هذه الرواية وبين الحاضر أو الماضي هو من قبيل المصادفة لا أكثر"، ليلج ساردا، مختارا تقنية فنية تذكر بتيار اشتهر منه عربيا جمال الغيطاني باستعادته أزمنة مملوكية في عدد من رواياته، ورضوى عاشور في تعاطيها مع الزمن الأندلسي، استحضار أمين معلوف لأزمنة قروسطية، أو عندما يتقاطع سعد الله ونوس مسرحيا مع حكايات تراثية مماثلة لحكاية الفيل، والتي كانت تعرف في الحكاية الشعبية المكية ببقرة الشريف. صلاح يستعير الزمن العثماني وتحديدا في الحجاز، أو مكة على وجه الدقة، بمسميات حاراتها التاريخية، حيث تحضر القشاشية ومنها ينطلق راويا سيرة مجاذيب، وليس مجذوبا واحدا يسميه "علي بو"، وإلى جانب الدراويش، حيث يتوحد الإنسان بالمكان تحضر المدعى وجبل الكعبة والزاوية، بينما تحضر لكل شريحة من المجتمع شخصية رامزة كالشيخ مقبل، الذي ينفرد بعالم مغاير ومثير في الرواية، ولكن بشكل خفي وبتكنيك فني وفق فيه صلاح إلى حد مدهش، ليغدو الشيخ مقبل الشخصية الموازية التي تشق طريقا خالصة لها في دراما العمل.

وتحيل شخصية البو إلى النافذة الذرائعية في مفتتح العمل. الدكتور عبدالله مناع في كتابه الأخير عن جدة.. الإنسان والمكان "تاريخ ما لم يؤرخ" كان يشير إلى أن ممن بقي في ذاكرته حيا نابضا، هو "الباوا"، أو البو كما كان له أن يسمي نفسه معتزا بشخصه، وهو - حسب وصف المناع – " شاب مديد القامة، في أواخر العشرينات ذو بشرة سوداء، ولكن ملامحه لم تكن زنجية مزعجة بل كانت وكأنها ملامح عربية مكسوة ببشرة سوداء، وكان له أب تقدمت به السن هو البو الكبير"، ويستمر المناع يسرد سيرة "البو الصغير" بشكل استذكاري سريع، لا ينفتح على فضاءات السرد كدراما تنأى عن الاكتفاء بالوصف الإشاري / الإخباري، بينما يذهب صلاح إلى أقصى تخوم الفن ليخبرنا أن "علي بو بفتح الباء، الحقيقة أنه ليس علي بو، فقد نال هذا الاسم على مرحلتين، في الأولى لم يكن سوى علي، أو علي الدرويش،...."، ليوغل بعدئذ وتبدأ لعبة السرد، ومهارات السارد، والتي تجلت في هذا العمل في القدرة على التكثيف، بتعميق الجملة، واختزال المشهد، ليكبر في مخيلة القارئ، وبصور شتى. لا تسمح المساحة التي انتهت هنا بإيرادها.