وتتداعى الذكريات ونتذكر أن شارع الملك عبدالعزيز، هذا الذي يخترق وسط البلد، كان هو الشارع الوحيد المشهور في ذلك الوقت الذي كانت تضرب به الأمثال في متعة التسوق وأمام عروض الفاترينات، والتي كنا ننسج من خلالها قصصا وحكايات، أثناء عودتنا لأمهاتنا القابعات في بيوتهن وهن يتحاكين بدورهن نفس الحكايات في ضحى اليوم التالي على فناجين القهوة والشاي، عندما كان لدلة القهوة معنى، «ولجمعة الجارات» معنى آخر أكثر حميمية. كانت عيادة أسنان الدكتور عبدالله مناع -في عمارة الحفني- الدافع الأكبر لالتواء رقابنا -نحن معشر المغرمين بالقراءة- لنتلصص على اللوحات الطويلة العريضة المثبتة على بلكونة العيادة، باحثين عن السر في عدم الإجابة عن استفساراتنا الصامتة والساذجة: كيف يكون دكتور أسنان ويكتب في الوقت نفسه في الجريدة مواضيع ليست لها علاقة بالطب؟ وعرفنا بعد سنوات طويلة أن الإجابة كانت بنفس درجة السذاجة، وأن هناك ارتباطا وثيقا بين خلع، وخلع أي مشاكل مزمنة في المجتمع.
الذي لم أجد له تفسيرا حتى الآن، هو.. كيف لم يحالفني الحظ في ذلك الوقت في الحصول على جنيهات وسبائك الذهب، عندما هدمت بعض البيوت القديمة في حارة الشام والمظلوم لتنفيذ الشارع الجديد، وردم بمخلفاتهما جزء من بحر الأربعين، بينما بعض أقراني حالفهم الحظ وحصلوا على سبائك الذهب والجنيهات، ومن يومها لعبت «البلية» في أيديهم وكل منا سار في طريق، لكن هم فين الآن وأنا فين؟
وأحسست بالدموع في عيني، عندما قال لي رفيق الجولة ونحن نصعد طلعة حارة الشام في طريقنا إلى مدرسة الفلاح -خرجت أجيالا-: هل تذكر هذا المبنى؟ وإذا به «فندق قريش» الذي ما زال قائما على حاله القديم!. قلت نعم أذكره جيدا عندما عسكر فيه في تلك الزمانات الجميلة فريق الاتحاد، والذي كنت أحد لاعبيه، ولم أتمكن تلك الليلة من النوم.. وظللت أتقلب على فراشي حتى الصباح.. أتعرفون لماذا؟ لأنني لست متعودا على نوم الفنادق المكيفة. وفي بيتنا الشعبي هناك في حي الشرفية ننام على التراب، ونتغطى أحيانا بأكياس الخيش احتماء من لسعات الناموس، بل إن الكلاب تنبح والقطط «تنونو» من حولنا حتى شروق الشمس، فنقفز من رقادنا مثل الأحصنة ونأخذها «كعابي» إلى المدرسة التي تبعد عن حيّنا حوالي خمسة كيلومترات أو أكثر.. فطالع الآن في وجه ولدك أو بنتك وهما يطلعان درجات الدور الأول، واحكم بالله عليك على «أكيلة الآيسكريم» وأكيلة الخبز الجاف.
* 1995