خلاصة المشروع الثقافي الذي يطرحه فضيلة الشيخ، سعد السبر، في إطلالاته المثيرة للجدل على القناة – الموقوفة – تختصره جملته التي قالها بملء فيه وهو يجيب في ذات – الحلقة – على سؤال أحد المشاهدين: (طالما أنكم معنا في هذا الوطن الواحد فإن عليكم أن تكونوا مثلنا... مثلما أن من مهمتنا أن ندعوكم إلى هذا المطلب...). انتهى. وبين الجملتين عشرات الجمل الشاردة التي أعتبر نفسي معها في حلِّ من نقاش صلب الحوار الذي أثار جدلاً وطنياً واسعاً انتهى إلى ما يعرفه الجميع من إيقاف القناة بقرار سيادي اعتبر البرنامج مع القناة شبهة لإثارة فتنة في جدار لحمة الوحدة الوطنية كهدف أعلى لحماية أمن الأمة ووقاية مشاعرها التضامنية. وجملة الشيخ، سعد السبر، التي تختصر مشروعه الثقافي تطرح السؤال الجوهري الملح: هل تقوم ركائز الوحدة الوطنية الشاملة على احترام الاختلاف والتنوع والتباين، أم أن الوحدة الوطنية، نفسها، كهدف منشود لن تأتي إلا بهدم هذا الاختلاف وردم هذا التنوع نحو هدف – ميتافيزيائي – لن يكون إلا بالإلغاء والإقصاء وتغليب فكرة النسخة الواحدة؟ والسؤال النابت من ثنايا السؤال السابق بعاليه: هل يستطيع ناقد اجتماعي واحد على كل هذه الأرض أن يعطينا مثالاً واحداً من كل بطون التاريخ على قدرة فريق على مسح وإلغاء الفرقة المقابلة؟ هل التنوع والاختلاف فكرة قابلة للجدل والحوار لينتهي النقاش في ظرف زمني محدد نجد أنفسنا ومجتمعنا من بعده وقد أصبحنا فرقة واحدة ومذهباً متحداً ونسيجاً واحداً وثقافة فردية مستنسخة من أنموذج واحد متخيل؟ والجواب أن هذا الجدل المحتدم، وكما تبرهن وقائع التاريخ الإنساني، لابد أن يفضي إلى نهاية الرحلة العدمية في محاولات – قولبة – المجتمع المتحد عبر تنوعه وتبايناته إلى مجتمع – واحد -، وفي علم الاجتماع، هناك فوارق جوهرية في مدلولات المصطلح ما بين – المتوحد – وبين – الواحد-. ومن أدبيات التاريخ المعاصر تبدو الحالة – السوفيتية – أعظم النماذج على الفشل الذريع لهذه النظرية. فمن أجل أهداف النسخة الميتافيزيائية الواحدة سخرت ثاني أقوى دولة على وجه الأرض كل إمكانات – الماكينة الثقافية والسياسية والمالية والعسكرية – من أجل تذويب الديانات والأعراق والهويات وتباينات الشعوب إلى فكرة – ستالينية – واحدة. ومن السخرية بمكان أن هذا الحلم المجنون قد انتهى حتى إلى كوابيس مقترحات مفزعة مثل المقترح الشهير ذات يوم من ستينات القرن الماضي وفيه تفتق المخيال العبثي عن إلزام بضعة وثلاثين مليوناً من طلاب المدارس والجامعات على أن يلبسوا نفس الثياب بذات الألوان وأن يدرسوا في ذات اليوم ذات المنهج الدراسي الواحد وأن يؤدوا ذات النشيد الذي سمي – صيحة روسيا – وأن يرددوه مع بدء وانتهاء كل حصة دراسية. ومن ذات أدبيات القصة يسجل التاريخ أن ذات اليوم المنشود قد شهد أكبر حالة غياب جماعي في تاريخ التعليم الروسي، بل وبالمؤكد في تاريخ التعليم البشري بأكمله. وبالاختصار فإن المجتمع – المتحد – لن يقوم على الإكراه بلبس الثوب – الواحد -. حاولت الفكرة السوفياتية أن تطمس من قواميس البشرية ما لا يقل عن تسع ديانات جوهرية وأن تلغي ما لا يقل عن ثلاثة وعشرين هوية وقومية وعرق لها أتباع بالملايين، وبعد أقل من نصف قرن على هذه الفكرة – الشمولية – تكتشف ذات الفكرة: أن نفس الفكرة كانت الداء العضال الذي فجر الفكرة المقابلة على النقيض بكل ما انتهت إليه من – التفكيك – والاستقلال. اكتشفت أن الديانات المختلفة صارت أقوى في نهاية الأمر من الضعف الظاهري لحظة – الاستبداد – مثلما اكتشفت أن الهويات والشعوب المختلفة تكون أكثر نضالاً وتماسكاً عند إحساسها بالاستبداد والاستهداف عبر فكرة الإلغاء والتسلط.
وخلاصة الفكرة التي أسوقها اليوم للشيخ السبر، أو لغيره، أن محاولات المصادرة والإلغاء تبرهن عبر القرون أنها فكرة عدمية عبثية مثلها مثل البحث المستحيل عن وهم اللون الواحد والمجتمع الواحد. آلاف السنين من حقائق شخصية التاريخ الإنساني تبدو أعمق من محاولة جملة واحدة أو برنامجاً تلفزيونياً في ظرف دقائق. ومثل هذه المحاولة في إلغاء فصيل أو – نمذجة – مجتمع، هي مثل أن ترمي طناً من الماء العذب في بحر مالح لتخفيف ملوحته، أو رمي طن من ماء البحر في مجرى نهر لتكثيف ملوحته. المجتمعات مثل البحر في تشكله، ومثل النهر الذي يبدو من العبث أن تعيد ماءه إلى مصبه ومنبعه. تاريخ الأديان نفسه مثل التاريخ الأنثروبولوجي للشعوب. تاريخ الأديان يبرهن، وبلا استثناء، أن الدين الواحد ينقسم مع الزمن إلى الطرائق والملل والنحل حين تبدأ كل طريقة بفكرة عقدية ثم تتخذ الأتباع وبعدها يبدو من المستحيل بمكان أن تلغي أو تصادر هذا الانقسام مهما كانت الظروف والقوة. إنها مثل محاولة السيطرة على قوة – ميتافيزيائية – خارج قدرة الإنسان وإرادته. ومن المؤكد أيضاً أن هذه هي ذات فكرة انقسام الشعوب فالأعراق التي تعود إلى صلب ودم واحد لن تعود لذات الصلب والدم حين تتحول مع البدهي من التطور الإنساني إلى – كانتونات – عرقية مستقلة ومختلفة. وإذا كانت مجادلات التاريخ قد تقبل الجدل مثلما يتوهم البعض، فمن المؤكد أن لنا في آيات الاختلاف من قول الله عز وجل في كتابه الكريم ومن قول نبيه المصطفى عليه أفضل الصلاة والسلام ما يكفي لأن نعرف إرادة الله في خلقه مبتدأ وانتهاء. هذه هي الحقائق التي كتبها الله (ولا يزالون مختلفين).