أتعاطف مع من يتولى مسؤولية الصحة والتعليم والإعلام في بلادنا، أشفق عليه من لوم الناس الذين لا يرون من الصورة إلا ظاهرها ولا يهمهم إلا الواقع الماثل أمامهم، فلا يتذكرون "رصيد" الأخطاء المتراكم المتوارث ولا يبحثون عن جذور العراقيل المتوارية خلف الصورة. ولكن هذا التعاطف وهذه الشفقة لا يقفان حائلا دون رصد الأخطاء والإشارة إلى الخلل والتصريح بعدم الرضا عن التقصير حيث ما كان. وهناك ملامح عامة للكثير من موظفي الجهاز التنفيذي، هي أن بعضهم يأتي من حقول أكاديمية ومهنية تغلب على أهلها "البراءة والوضوح" فيدخلون غابة الروتين وهم مسلحون بأخلاقيات الشفافية والصراحة لكن ما أن يلبثوا حتى تصيبهم "أمراض" الإدارة التي تضغط على حواس الصراحة وتقلل من قابليتها للاستمرار وتضعف مرونتها وقدرتها على التفاعل مع متطلبات الشفافية.
هذه المقدمة من وحي ملتقى "حوار المسؤولية المشتركة" الذي تنظمه جريدة عكاظ، مشكورة في سبيل تقريب وجهات النظر وإيجاد أرضية مشتركة بين المسؤولين والمواطنين، وقد استضافت فيه الأسبوع الماضي معالي الدكتور عبدالله الربيعة وزير الصحة للحديث عن شؤون وشجون وزارته المرتبطة بحياة الناس، وحول حاضر الخدمات ومستقبلها. وأولى الملاحظات أن اللقاء اتسم بالكثير من الأسئلة الواضحة والإجابات الغائمة العائمة، مع ما أفسدها من حديث الوعود والتوقعات والتعميم في بعض الأحيان. وحتى لا تقع هذه السطور في ما تنتقده من عموميات نستند إلى الحوار (عكاظ يوم الإثنين 26 مارس 2012). فقد سئل الوزير عن الإنفاق الصحي على المواطن ونسبته إلى الناتج القومي فقال: إن المملكة تنفق 676 دولارا شهريا على المواطن، نصيب وزارة الصحة مما ينفق 500 دولار وهناك خطة لزيادتها.. وقال إن نسبة الإنفاق الصحي من الناتج القومي ما تزال ضعيفة في العالم العربي حيث تتراوح ما بين 3-4 في حين تبلغ في الدول المتقدمة ما بين 10-15.. ويلاحظ أن هذه الإجابة تحاشت الحديث عن نسبة الإنفاق من الناتج القومي و"دفنته" في نسبة عامة في العالم العربي الذي تتفاوت ظروفه و قدراته الاقتصادية وعدد سكانه. وللأسف يبدو هذا الأسلوب شائعا بين بعض المسؤولين حين لا يريدون إعطاء الإجابة المحددة، إما لنقص المعلومة لديهم أو لتحاشي الرقم الحقيقي. فيهربون إلى "التعميم" أو المقارنات العامة التي تتجاهل العناصر اللازمة لتوافر شروط المقارنة. ومن حديث الوعود التي تفسد حسن استقبال المواطنين لكلام المسؤول ما قيل في الرد على شكوى أهل المدينة المنورة من تدني الخدمات الصحية وقلة الأسرّة المتاحة فقد قال معالي الوزير: خلال الفترة المقبلة (5-7 سنوات) سيكون في المدينة المنورة 4-5 أسرة لكل مواطن! (يبدو أن هذا خطأ طباعي أو زلة لسان لم تراجع). وفي هذه الفقرة ما يوجب التوقف فأهل طيبة ـ كغيرهم ـ ملوا الوعود الكثيرة وباتت تشعرهم بالإهانة والتسفيه وعدم احترام مشاعرهم. هل يعقل أن تتمكن وزارة الصحة، التي تشكو من ندرة الأراضي المتاحة وما يصاحبها من ترتيبات معقدة بطيئة مع وزارة المالية، من التغلب على هذه المعضلات وتوفر من المال ما يمكنها من شراء أراض شاسعة تكفي لبناء مستشفيات يتوافر بها هذا العدد من الأسرة في مدة أقصاها سبع سنوات؟
تجارب المواطن مع مسار تنفيذ المشاريع لا تجعله يستقبل هذه "الوعود" باطمئنان.. إذ كيف يمكن أن "تدبر" وزارة الصحة الأراضي اللازمة و"تقنع" وزارة المالية بضرورة توفير الميزانيات القابلة للصرف في المدة المحددة؟ وكيف ستواجه الوزارة عقبات توفير الكوادر البشرية المدربة للتشغيل والخروج من عقبات تأخر المقاولين ونحن نرى مشاريع متأخرة في مناطق أخرى؟ أعتقد أن حديث الوعود ليس في صالح إيجاد أرضية مشتركة بين الأجهزة التنفيذية والمواطن، لأن هذا الهدف "المشروع" يحتاج إلى قدر من الواقعية والشفافية لم يلمسها القارئ في الإجابة على سؤال عضو مجلس الشورى الأستاذ سليمان الزايدي حين قال إن الأسرّة المتاحة في مستشفيات مكة لم تزد منذ عشرين عاما فقد كانت الإجابة: "ما يخص العاصمة المقدسة والمدينة المنورة، فإن وضعهما يختلف عن بقية المناطق في ظل الحج والعمرة الزيارة. وتم وضع خطط روعي فيها النسبة والتناسب(!!!)، وهناك مشاريع مستقبلية إضافة للحالية". ماذا تعني هذه الإجابة ومثيلاتها. هل تطمئن السامع أو القارئ من خارج مكة أو تقنع أهل مكة الذين يظلون في قائمة الانتظار لعدة أشهر حتى يتوافر سرير؟ السؤال كان واضحا: الأسرّة لم تزدد طوال عشرين عاما فلماذا تأتي الإجابة بهذه العمومية؟ أعرف الحرج الذي يقع فيه المسؤول خاصة عندما لا تكون لديه معطيات فيركن إلى الحديث عن المستقبل. وفي حديث التأمين الطبي ما يحبط الكثيرين، وفي كل الأحوال تُحمد له الصراحة في هذه المسألة.
الناس كانت تتطلع إلى التأمين الطبي بعد أن يئست من تحسين الخدمات في مستشفيات وزارة الصحة، وكانوا يعلقون الأمل على مشروع التأمين فإذا الوزير يضعه في "درج الدراسة"، ذلك النفق المخيف الذي يبتلع المشاريع والآمال، لخمس سنوات مقبلة.. يا معالي الوزير: الناس تعاني من مستوى خدمات مستشفيات الوزارة وتئن من أسعار المستشفيات الخاصة حيث الاستقبال السيئ والانتظار الطويل والأسرّة القديمة وجهاز التمريض المتأفف والأطباء المتذمرون، وتشتكي من ظلم بعض شركات التأمين التي تستغل غياب الرقابة عليها فتشرع وتنفذ وتقتضي فهي (الخصم والحكم).
والحقيقة أن الصحة والتعليم والإعلام من الوزارات المرهقة في المملكة تتجاذب المسؤولين عنها قوى متعددة بعضها ظاهر وبعضها خفي.