ثمة حراك في منظومة التعليم لا يمكن تجاهله، رغبة من قادة هذه المؤسسة في إحداث نقلة إيجابية لكثير من عناصر المكون التعليمي، كصياغة المقررات الدراسية صياغة جديدة خالية من الأفكار المتطرفة وزاخرة بمعطيات الرؤى الوطنية الحديثة. واعتماد مدارس الطفولة المبكرة، وإلغاء نظام التقويم المستمر في المرحلة الابتدائية.
ولكن ثمة (نقاط) يجب أن تكون راسخة في ذهنية المشرعين والمقررين لأنظمة التعليم في بلادنا، حتى يكون أي حراك إيجابيا وفاعلا، يفضي إلى مخرجات حقيقية، لطالما انتظرنا تجلياتها على بوابات وشرفات المدارس باختلاف مراحلها التعليمية، ولعلي أجد في مقاربة هذه النقاط على النحو الآتي:
(1)
أول المواضيع التي كنت وما زلت أراها تعيق سير عجلة التعليم في بلادنا، كثرة وتداخل البرامج التعليمية، بل إن بعضها يتوقف فجأة ويستحدث بديلا له برامج أخرى مشابهة.. ولعلي في هذه الأثناء أتساءل عن مصير البرامج والمشاريع التي كانت مقررة في أجندة الوزارة في عهد الوزير السابق د. العيسى: (مشروع التعليم «تطوير»-البرنامج الإشرافي على مركز الحوار الوطني- برنامج «مكن»- برنامج «كفايات»-برنامج بوابة المستقبل- مشروع تطوير القدرات البشرية- برنامج التفكير الناقد... نماذج فقط من بقية كثيرة أخرى)؟! وبالتأكيد فإن تلك التداخلات والتقاطعات في برامج العمل تسلب من البرامج الجادة تأثيرها الحقيقي، وتقود مسيرة العمل كله لعشوائية الأهداف وضعف المخرجات!!
(2)
مهم (جدا) العمل على تحقيق الأولويات المستحقة ذات القيمة الكبرى في المنتج التعليمي، فلن يكون لأية أعمال (ترميمية) و(تكميلية) معنى، إذا لم تكن قواعد البناء راسخة (متمكنة).
ما هو الأهم لصالح العملية التعليمية (مثلا): استحداث برامج جديدة واعتماد مدارس الطفولة المبكرة، أم العمل الجاد على تقليص عدد الطلاب في الفصل الواحد، حتى تكون عملية متابعتهم دقيقة وفاعلة؟
ولا شك أن ما قرأناه مؤخرا حول رفع الطاقة الاستيعابية للفصول، بحيث لا يقل عدد الطلاب في الفصل الواحد عن 45 طالبا! يجعل المنجز المستحدث أيا كان يفقد قيمته ومصداقيته، ما دام أن قادة العمل التعليمي لا يعترفون (بسلم) الأولويات العملية!
كذلك فكان من الأجدر الاهتمام بتحسين البيئات المدرسية الممكنة لتلقي غايات التعليم الأساسية، قبل أن تقرر حصتا النشاط اللاصفي إلزاما في كل المراحل التعليمية!! لا يزال سؤال أين (يتعلمون)؟ قائما، وبالتالي فسؤال أين (ينشطون) فائض عن الحاجة (بالتأكيد)!
(3)
ولعلني أختصر أسباب ضعف المخرجات الإيجابية التي يمكن قياسها في أداء الطلاب في سببين جوهريين: فقدان المنهج العلمي، وطريقة الاختبارات الجديدة (الموضوعية بحسب قادة التعليم ومعلميه)!.
فمن حيث المنهج والتفكير العلمي يجب تكريس اهتمام كل عناصر التعلم بحتمية وجود الذهنية العلمية، فدون وجود العقلية العلمية، و(منهج) العلم في الرؤية والتفكير لا يمكن إنتاج أي من أنماط الفعل التعليمي الصحيح، في مستوى التلقي الأول للمعلومات المتنوعة، ثم في مستوى استثمار تلك المعلومات لإنتاج أنماط تعلم أكثر عمقا وتفاعلا:(الإبداعي.. الفلسفي.. الناقد)!
لا يمكن للظل أن يستقيم بعود أعوج حقا! هل كنا نتوقع أن إنسانا (بشكل عام) مجردا من آلية التفكير العلمي، يستطيع أن يتعلم بشكل صحيح ومنتج؟! إن اتباع منهج علمي محدد method، أي طريقة محددة تعتمد على خطة واعية هي أهم ما يحتاجه الطالب في مراحل تعلمه المتقدمة والمتأخرة معا، وكذلك كل من ينتمي للعالم الأكاديمي والعالم الثقافي بشكل أو بآخر، لأن امتلاكها حقيقة يفضي إلى امتلاك الذهنية العلمية القادرة على الدخول في حوارية الأطياف والمفردات والشخوص العلمية، وكذلك امتلاك القدرة الموضوعية في الحكم على الأشياء، والانعتاق من أهم معوقات التعليم والثقافة (الفكر الخرافي.. الأسطوري.. التقليدي.. التقديسي...) والتعصب للآراء والأيديولوجيات والشخصيات والإقصاء للآخر المختلف!
إن تحقق هذه (المنهجية) يمكن الفرد لدينا من الاستفادة من المعلومات التي يتلقاها في المدارس والجامعات والمساجد ووسائل التواصل المعلوماتية، ليشتغل بعد ذلك على تحويلها إلى معارف فاعلة ومنتجة وحقيقية.
ومن حيث طريقة الاختبارات المستحدثة، فإني أزعم أن من أهم أسباب ضعف مخرجات التعليم هو الأنموذج الذي تجري عليها اختبارات المراحل التعليمية، وهو الأنموذج الذي اتفق العرف التعليمي على تسميته بالاختبار الموضوعي (الذي يتضمن أسئلة الاختيار من متعدد، والمزاوجة بين قائمتين من المصطلحات والمفاهيم، والتأكيد على صحة العبارات أو خطئها)، وفي هذا الأنموذج لا يطلب من الطالب كتابة كلمة واحدة، بل كل ما يفعله هو تظليل الإجابة الصحيحة في دائرة صغيرة بخيارات بسيطة ومتعددة للحل:
فإما أن يكون عارفا حقا بالإجابة الصحيحة، أو أن يترك للحظ فرصة للاختيار، أو يمد نظره ببساطة لمن حوله بالقرب (جدا) لاقتناص موقع التظليل باعتبار ضيق مساحة الفصول الدراسية عادة، أو أن يستنتج الإجابة من سياق عبارة السؤال المباشر عادة (أيضا)! هذه الطريقة في صياغة الاختبارات زادت من عمق جراحنا من (كتابة) أبنائنا (الضعيفة)، إملاء ونحوا وصرفا ورسما، فقد صاروا -أصلا- لا يكتبون، واستقر في وعيهم منذ سنوااات أنهم ليسوا في حاجة (للكتابة) لقياس تحصيلهم العلمي. أما المفارقة الأكثر إيلاما فهو أن وحدات دراسية كاملة من المقررات الدراسية تتطلب التخلي عن ذلك الأنموذج القياسي (التلويني)، وأن يكتب الطالب فعلا إجاباته عن أسئلة بعينها: فهل تجدي الأسئلة الجديدة مع وحدات دراسية في اللغة العربية مثلا:
تتمحور حول (كتابة النصوص الوظيفية من تقارير ومحاضر ورسائل إدارية، أو أن يدلل الطالب أو يستنبط منهج الاستدلال المقصود: استقراء- استنتاج- مماثلة وقياس، أو مهارات كتابة الخطبة)، إلا أن تكون الأسئلة على تلك الوحدات الدراسية نظرية فقط، حتى تنسجم مع الأنموذج التظليلي، وبالتالي ينعدم تماما تحقق الحصيلة المعرفية التطبيقية، والذي هو الهدف الرئيس من دراسة مثل تلك الوحدات.
وبالطبع فإن طريقة الاختبارات تلك تكون في صالح إراحة المعلم من عناء القراءة والتصحيح، ما دام أن جهاز قراءة تلوين الطلاب هو الذي يتكفل بالمهمة كلها!!
الحقيقة أن المشهد يزخر بخلل كبير، كان من الممكن حله بدمج أسئلة الكتابة التقليدية بالأنموذج الجديد، وأن يستقر في وعي قادة التعليم واختباراته ومعلميه أن أسئلة (الكتابة) يمكن أن تتوافر على أعلى قدر من (الموضوعية) كذلك، متى ما أحسن المعلم صياغتها وتيقن من أن إجاباتها محددة ودقيقة!
(4)
وبعد.. فمن أهم ما يجب فعله في منظومة التعليم الاهتمام بالمعلم، والذي يمثل حجر الزاوية في المكون التعليمي العام، فمتى اطمأن المعلم لحصوله على حقوقه المادية والمعنوية، وثقته بأن قادة التعليم يعملون على تذليل كل الصعوبات والمعوقات التي تواجهه في حياته العملية، فإن أداءه التعليمي التربوي سيكون أكثر إتقانا وصدقا وإبداعا، ولعل أبرز ما يحتاجه المعلم لدينا: التأكيد على حقه في التعيين على المستوى المستحق،
وتوفير ما يشعر بفقده من تأمين طبي ونوادٍ رياضية ومراكز ثقافية، واتخاذ كافة السبل التي تحفظ سلامته وتعيد إليه هيبته المهدرة، ومن أهم المطالب كذلك تقدير سنوات الخدمة لبعض المعلمين، بحيث لا تتساوى الواجبات المقرر أداؤها من حصص دراسية وإشراف يومي مثلا مع المعلمين المستجدين. وبالتأكيد فإن المعلمات يتساوين مع المعلمين في الحاجة لتلك المعطيات، مع احتياجات أخرى على قدر عال من الأهمية، كحل مشكلات معلمات المناطق النائية، والتي سيأتي الحديث عنها في مقاربة تالية (فقط أذكر -إلى أن يحين موعد نثارنا القادم، بأن المعلمة التي تقطع مئات الكيلومترات عبر أودية وجبال وطرق ضيقة خطرة، لو قدر الله عليها بحادث أليم في رحلتها المورقة تلك، فسوف يطوى قيدها بلا حقوق ولا أية مكتسبات لأهلها.. لأبنائها وبناتها ممن كانت تعمل لأجلهم.. من يصدق؟).
أخيرا.. ماذا عن التنظيمات الجديدة للمعلمين والمعلمات، والتي سمعنا بها وقرأناها كمقترحات أولى خلال الإجازة الماضية؟ هل كانت تفي بتلك الاحتياجات والمطالب المستحقة؟!
سأكمل مقاربتي في النثار القادم، بإذن الله.