كتبت قبل ثمانية أعوام، وتحديداً بتاريخ 27 أبريل 2004، مقالاً عن الخطوط السعودية بعنوان "الخطوط السعودية.. المصداقية الضائعة"، ولم أكن أنوي الكتابة مرة أخرى في هذا الموضوع، إلا أنه بعد كل هذه السنوات ما زلنا نعاني مع الخطوط السعودية.. نعم، لقد تحسّنت بعض الأمور ولكن أمورا أخرى تفاقمت وصارت إلى الأسوأ. إن أهم ما تم تطويره هو قدرتنا على الحجز الإلكتروني وسحب بطاقة الصعود إلى الطائرة، وهذا أمر متعارف عليه في كل شركات الطيران فليس بالشيء المميّز، ولكن أمورا أخرى تفاقمت وصارت إلى الأسوأ، ألا وهي عدم تغطية مقاعد الرحلات الداخلية لحاجة السوق المتزايدة، ليصل الانتظار في كثير من الأحيان إلى الأسابيع بين مدن أساسية في بلادنا الغالية مثل السفر بين جدة والرياض.

إننا نكثر الحديث عن التنمية المستدامة، ونرفع شعار "الإنسان أولاً" لنؤكد أن الإنسان هو الأساس، ونبني المدن الصناعية والاقتصادية الواحدة تلو الأخرى، وننشئ مدينةً لتقنية "النانو"، ونردّد أننا في طريقنا للعالم الأول، لكننا لا نستطيع أن نوفّر ونضمن مقعداً واحداً (على أي درجة كانت) في طائرة لننتقل من مدينة مثل جدة إلى العاصمة الرياض إلا بشق الأنفس وبعد أيام أو أسابيع، أما إن كان لك صديق يعمل في الخطوط السعودية أو "واسطةٌ"، فإن الموضوع سيختلف بالنسبة لك وستجد المقعد الذي تريد في أغلب الأحيان!

إننا إذا أخذنا بمعادلة مالك بن نبي للعناصر الثلاثة المكونة للحضارة والنهضة (الإنسان+ التراب+ الزمن)، نجد أن تقييد حركة الإنسان (العامل الأساسي في معادلة النهضة) سيعطّل طاقة الإنسان ويهدر عليه الوقت (عامل الزمن)، فأنّى لنا أن ننطلق وننشئ نهضتنا المنشودة المرجوّة وإنسان الحضارة مُكبّل عن الحركة المطلوبة لتحقيق هذه النهضة وزمنه مهدر؟ كم من الاجتماعات الهامة أُلغيت! وكم من المؤتمرات لم يستطع المشاركون الوصول إليها في الوقت المناسب! وكم من الطوارئ والوفيّات التي عجز الأقرباء والأصحاب أن يكونوا مع أهليهم وأصدقائهم في آخر ساعات حياتهم! وهذا قلّما يحدث في البلاد المتقدّمة التي توفر خطوط طيران متعدّدة ورحلات متتابعة، فتتنافس الشركات في توفير المقعد لمن يحتاجه ولو في آخر لحظة وإن كان بسعر مرتفع. وحدث ولا حرج عن عدد المرّات التي انتظر المسافرون فيها ساعات طوالا بسبب إلغاء رحلة أو تأخّرها دون أن يوجد البديل المناسب! في حين أن شركات الطيران العالمية أو حتى العربية الحائزة على جوائز عالمية مثل القطرية والإماراتية توفّر للمسافرين في حالة إلغاء رحلاتهم غرفة في الفندق المجاور ورحلة بديلة لحظة وصولهم المطار إن كانت من الرحلات المواصلة (ترانزيت).

المؤلم والعجيب حقاً هو أن دول العالم تجد في الطلب المتزايد على مقاعد رحلاتها والضغط على الطيران الداخلي فرصةً استثماريةً يتنافسون عليها، ولكننا في بلادنا الغالية - وبالرغم من أننا نعيش في عصرنا الذهبي من حيث دخل الدولة والسيولة المالية في وقت ينهار فيه اقتصاد دول غربية صناعية متقدمة - غير قادرين على استغلال هذا الطلب والضغط وتحويله إلى استثمار فعّال ينفع المجتمع والمستثمرين على حدٍ سواء، بل وبالرغم من هذا الضغط على الخطوط السعودية وعدم توفّر المقاعد عليها (مما يعني أن جميع الرحلات الداخلية من المفترض أن تكون ممتلئة أو شبه ممتلئة)، إلا أن مديونيات الخطوط السعودية، بناء على ما نشر في صحيفة الرياض بتاريخ 6 مارس 2012م، وصلت إلى 11 مليار ريال سعودي، علماً بأن شركة الطيران الإماراتية تعلن كل عام عن أرباحٍ تتجاوز المليار ريال للسنة الواحدة.

وإنني في مقالي هذا لن أتطرّق إلى مستوى الخدمة وأقارن بينها وبين شركات طيران أخرى، لأن الحديث في هذه القضية يطول وقد نفرد له مقالاً منفصلا آخر. إن تركيزي في مقالي هذا عن جزئيةٍ واحدةٍ وهي ضرورة توفير مقاعد بين المدن المختلفة داخل المملكة لكي ننتقل بسرعة وبراحة كما ينتقل الإنسان في دول العالم المتقدم. عندما نسأل الخطوط السعودية عن محدودية الرّحلات فإنهم يلومون الهيئة العامة للطيران المدني بأن ليس هناك مدرجات كافية لاستيعاب رحلات أكثر (خاصة في مدينة جدة)، وعندما نستفسر من الهيئة العامة للطيران المدني فإنّهم ينكرون ذلك ويقولون إن الخطوط السعودية ليس لديها طائرات كافية، ولكنّهم يعطوننا الأمل بأن المشكلة في طريقها للحل في جدة، خاصة مع افتتاح مطار الملك عبد العزيز الجديد بعد بضع سنين وتشغيل الأسطول الجديد من طائرات السعودية.. هل تستمر معاناتنا أعواماً أخرى حتى افتتاح المطار المأمول؟ لا بد من إيجاد حلول مؤقتة سريعة وحلول أخرى دائمة، فبضع سنين ليس بالوقت القليل من زمن الشعوب حين ندرك مدى تعطيله لحركة الإنسان.. العامل الرئيسي في بناء الحضارة والنهضة.

إن المؤلم في الأمر أننا أصبحنا نعيش حالة التبلّد الحسّي، وأصبح عدم وجود مقعدٍ في الطائرة إلا بعد أيام أو أسابيع أمرا طبيعيا عند من فقد الأمل، أو لم يعش في دول أخرى ليعرف حقّه في التنقل السريع بين المدن الداخلية في دولته. أما الأعجب فهو أننا عندما نصعد طائرة الخطوط السعودية نجد المقاعد الشّاغرة في كثير من الرحلات في حين أن قائمة الانتظار طويلة! ومن الركّاب على قائمة الانتظار من يحمل تذاكر على الدرجة الأولى ولا يمانع أو يبالي أي مقعد يُقدم له، وعندما نستفسر من الخطوط السعودية يقال لنا "هذه مقاعد لركاب دفعوا قيمتها ولم يحضروا"! إذن.. ماذا عن هؤلاء الذين على قائمة الانتظار الواقفين على بوابة صعود الطائرة؟ لماذا لم يقدّم لهم المقعد الخالي؟

أما صعوبة تغيير الدرجة فهذا أمر آخر لا نراه في شركات الطيران الأخرى.. فإذا كانت تذكرتك على درجة الأفق مثلاً ولم يتوفّر مقعدٌ إلا على الدرجة الأولى، وكنت مستعداً لدفع فرق الدجة وبأي طريقة - سواء كان ذلك نقداً أو ببطاقة ائتمان- لتستطيع السفر، فإن الإجراءات تأخذ وقتاً يحول في كثير من الأحيان دون تحقيقه، لتغادر الطائرة بمقاعد شاغرة في الدرجة الأولى تاركة خلفها ركّاباً يحملون تذاكر لدرجة أقل وعلى أتم استعداد لدفع فرق الدرجة أو في بعض الأحيان شراء تذكرة جديدة في آنها، ولكن الإجراءات المطلوبة تحول دون ذلك.

أسئلة كثيرة.. صور غريبة.. لا نراها في شركات طيران ناجحة.. ولا في شركات الطيران الحريصة على عدم إهدار أي مقعدٍ، لكونها حريصة على أرباحها وإرضاء ركّابها وحماية سمعتها ومصداقيتها.

نريد حلاً مؤقّتاً سريعاً.. في انتظار حلكم الدائم..

إننا نعيش في عصرنا الذهبي والمال لا يمثل عائقا لنا، أفنعجز أن نجد حلاً مؤقتاً سريعاً لمشكلة وقضية حيوية هامة مثل هذه؟!