الانتخابات التشريعية الإسرائيلية الأخيرة في 2009 التي جاءت بحكومة نتنياهو الحالية، كحكومة يمينية متشددة جديدة، ربما تقضي على ما تبقى من آمال السلام في المنطقة، رغم أن أميركا (عرّاب السلام) منهمكة انهماكاً عميقاً في مشكلة السلام في الشرق الأوسط، لصالح إسرائيل طبعاً. وترى هذه القضية من أولوياتها في عهد إدارة أوباما، لعلاقتها بكسر حدة الإرهاب في المنطقة، وتحويل الشرق الأوسط إلى بحيرة ساكنة وآمنة كما تأمل أميركا وتسعى، ففي ذلك أمن أميركا نفسها، وأمن مصالحها الحيوية في هذه المنطقة من العالم. ولعل قرار أوباما السابق عام 2009، بإنشاء مكتب دائم في إسرائيل أو في الضفة الغربية لجورج ميتشل، لكي يقيم في الشرق الأوسط إقامة دائمة، تمكِّنه من (حلحلة) الوضع هناك، وفكِّ بعض العقد، دليل كبير على اهتمام الإدارة الأميركية الجديدة بقضية الشرق الأوسط، ولكن هذا المكتب لم يلبث أن أُغلق، وأُلغيت مهمة ميتشل بعد فشلها واصطدامها بالحائط الإسرائيلي وبناء المزيد من المستوطنات. وازدادت تعقيدات القضية الفلسطينية بانهيار مشروع المصالحة بين "فتح" و"حماس" أخيراً، واعتداء إسرائيل على قطاع غزة.

جاءت حكومة اليمين الإسرائيلي عام 2009 لكي تقول لنا وللعالم: إنه لا أرض مقابل السلام، ولكن السلام مقابل السلام. وما زالت تصرُّ على ذلك. وهذا ما رفضه العرب والفلسطينيون، كما أنه ينمُّ عن خوف إسرائيلي واضح من السلام. وفي الوقت نفسه، كان العرب منذ ستين عاماً ويزيد، يخشون من السلام، وما زالوا حتى الآن يخافونه.

فلماذا يخاف الفلسطينيون واليهود على السواء، من السلام في الشرق الأوسط؟

هناك عدة أسباب تاريخية وسياسية للخوف من السلام، يمكن أن نلخصها بالتالي:

1- يخشى الإسرائيليون من السلام، لأن السلام يُظهر اليهود أمام العالم بأنهم كذابون، ويخالفون أسطورتهم التاريخية. وأسطورتهم التاريخية تقول، بأن الفلسطينيين مجرد "أغيار" محتلين، تمَّ تحرير أرض الميعاد منهم، وأن لا مكان لدولة بين الأردن وفلسطين، والسلام سوف يضع إسرائيل في وسط البحر العربي العارم، وسوف يذيب دولة إسرائيل في النهاية. ولا شك أن السلام سيكون سبباً في إقامة حرب أهلية في إسرائيل بين الأصوليين اليهود وبين العَلْمانيين، وستفقد الدولة العبرية بالسلام العطف الدولي، والتعاطف الإعلامي الدولي، حيث ستصبح دولة إسرائيل آمنة، ولا خطر عليها.

2- وكما يخشى الإسرائيليون السلام، فإن الفلسطينيين كذلك يخشون السلام لسبب تاريخي آخر كذلك، فالفلسطينيون يخشون السلام، لأنه سيهزم ويمحو الأسطورة الفلسطينية القائلة بتحرير كامل التراب الفلسطيني من النهر إلى البحر، كما أكد ذلك "ميثاق حماس" 1988، ومحو إسرائيل من خارطة العالم، كما يطالب أحمدي نجاد الآن، وإقامة الدولة الفلسطينية.

3- إن نتيجة المفاوضات التسويفية المؤلمة بين الفلسطينيين وبين الإسرائيليين، أثبتت للفلسطينيين حتى قبل نزاعهم الحالي بعضهم مع بعض، واحتقار إسرائيل للفلسطينيين، ومراوغتها، وتهربها من الالتزام بالمواثيق، وإملاء شروط قاسية، قد أكدت اليقين لدى الفلسطينيين، بأن إسرائيل لا تريد السلام، وتمانع في إقامة دولة فلسطينية مجاورة لهم، مما دفع الفلسطينيين إلى اليأس، واعتماد الحل الدموي الانتحاري بين فترة وأخرى، انطلاقاً من قطاع غزة، وبذا أصبح السلام بالنسبة لمعظم الفلسطينيين سراباً خادعاً.

4- يقول المفكر التونسي العفيف الأخضر إن من عوائق السلام العربي – الإسرائيلي وجود الذهنية الزراعية لدى الإنسان العربي، وهي الذهنية ذات الإحساس الضعيف بالزمن الخطّي؛ أي التصاعدي. وهي حال الشعوب التقليدية التي هي سجينة المفهوم الدائري للزمن الذي يكرر نفسه، عوداً على بدء، مع عودة الفصول والمواسم. فهناك استهتار عربي بالزمن كما شاهدنا بوضوح في محادثات كامب ديفيد بين عرفات وباراك وكلينتون في 1999.

5- توجد في العالم العربي أزمة النخب الحاكمة، وهذه تُعبّر عن نفسها في عجزها المتزايد عن السيطرة على الأحداث. وهذا العجز يُعتبر أساساً لغياب الشجاعة السياسية حين اتخاذ القرارات التاريخية. فصاحب القرار السياسي أمام موقفين: إما الفرار من مسؤولياته مجاراة لمزاج جمهوره، وإما مواجهة خطر مواجهة هذا الجمهور بلغة الحقيقة. والسياسي لا يكون شجاعاً إلا إذا اقتنع بأن تحقيق أهدافه السياسية أهم من مهنته السياسية. وهذا هو البطل السياسي الذي يعطي لحياته معنى بتحقيق مشروعه.

6- امتزاج السياسة بالدين في العالم العربي، لدى العرب واليهود على السواء، وكذلك امتزاج العوامل النفسية بالسياسية، وامتزاج المصالح بالإيديولوجيا، وامتزاج الوقائع بالمخاوف، وامتزاج الحقائق بالخيالات.

7- تحكم اللامعقول بالعقول. وتفضيل المجتمعات في العالم العربي مبدأ اللذة على مبدأ الواقع، وأخذ الثأر على أخذ الحق، وتبني "وقفة العز" نتيجة لانتصار جزئي.

8- وجود قيادات في العالم العربي، وفي المقاومة الفلسطينية مأزومة، خائفة من السلام، تقودها الأحداث، ولا تقود الأحداث، كما هو الحال الآن.

9- وجود أيدٍ لصبيان السياسة، تلعب في أعواد الثقاب، قرب براميل البارود. وحيث القرارات المصيرية لا تصنعها المؤسسات بل أفراد، كما هو الحال في فلسطين الآن. وهؤلاء الأفراد، لا يمكن التنبؤ بنزواتهم الشخصية، وشطحاتهم الإيديولوجية.

10- انتخاب قيادة فلسطينية ذات مصداقية، والتمسك بالوعود التي تعطيها، فالعالم العربي والقيادة الفلسطينية كانت تصنع قرار الرجل الواحد، وليس قرار المؤسسات السياسية، ويتم اتخاذ القرار في لحظات، دونما تحليل للمعطيات، أو أدنى قدرة على توقع مجرى الأحداث، واقتناص الفرص النادرة. فمعظم القيادات في العالم العربي تفضّل الارتجال على التخطيط، ورد الفعل على متابعة الأهداف المرسومة بصبر، والتكتيكات المتناقضة على الإستراتيجيات المدروسة، والحلول السهلة على التفكير في الواقع المضاد.

11- إن القرار السياسي الخارجي في العالم المعاصر مرصود للتأثير في عالم بالغ التعقيد وغير سهل التوقع، لذا، يتطلب شروطاً، أولها أن تتقاسم المؤسسات المختصة العمل على صنعه، وهكذا لا يعود ثمة من احتمال لقرار الحاكم الفرد اللامبالي بالمعطيات الموضوعية والضرورات الدبلوماسية والإستراتيجية.

12- وأخيراً، ففي المجتمعات العربية تتم صناعة القرار من قبل الحاكم ومزاجه المتقلب، أما في المجتمعات الراشدة، فالمؤسسات هي التي تصنع القرار في أناة، وهي التي تحدد أهدافه ووسائل تحقيقه الملائمة. فتفادي انفجار الأزمات والتحكم فيها "هي" المؤشرات الجدية على أن حكومة ما تصنع وتتخذ قرارها حسب المواصفات المطلوبة في عصرها. وكلما كان توقُّع الأحداث متدنياً أو خاطئاً كانت تكاليف التصحيح غالية، إن لم يصبح التصحيح إشكالياً، وهو ما يحدث كثيراً، وغالباً، عندما تكون صناعة واتخاذ القرار ما يزالان في الدرجة الصفر من تطورهما، كما هي الحال على الساحة الفلسطينية التي تتطلب إعادة هيكلة حقيقية.