(كانت اللافتات والشعارات مطابقة لما هو في الميدان، الشبان الذين تناوبوا قيادة الهتاف في منتصف القوس لم أعرف أياً منهم كانوا يشبهون شباب الميدان، فكرت هل جاؤوا هنا ليقودوا المثقفين والكتاب ويساعدونهم على صياغة رفضهم داخل المظاهرة، هؤلاء الشباب يقودون الشعب كاملاً، شيء مذهل، لماذا كان متاحاً لهؤلاء أن يضطلعوا بهذه المهمة، دون إدعاء، دون تخوين).

هي أسطر من يوميات الكاتب المصري أحمد زغلول الشيطي التي دونها من ميدان التحرير خلال ثورة 25 يناير، وصدرت أخيراً عن دار ميريت في القاهرة. بمنتهى الحميمية والدهشة سجل الشيطي يومياته، وبدا بين سطر وآخر كمن يدين المثقفين منبهراً بأداء الشباب الأسطوري، متسائلاً (كيف تجاوزوا كل أمراض النخب السابقة، كيف أيقظوا من غرق في اليأس أو في الحسابات المشؤومة، أو في الطرق المسدودة لتدمير الذات).

ومثلما كان الشيطي يدين في ثنايا سطوره الظلم والقسوة والتفسخ والجبروت، كان يوثق أيضاً حضوراً ميدانياً قوياً لجملة من المثقفين في أيام الثورة، ينزل يومياً للميدان، يحمل لافتات، يهيم مع مبدعين في دار ميريت - التي أصدرت الكتاب - يكتبون الشعارات والهتافات، يتلفت في الميدان فيبصر من الكتاب (سيد البحراوي، منصورة عزالدين، محمد عبدالنبي، هويدا صالح، سيد الوكيل، شعبان يوسف، سامية أبوزيد.... وآخرين) فتهب نسمات شتوية باردة تحرك مياه النيل الرصاصية اللون. وهكذا كان الأمل يكبر ويصغر حد التلاشي، ليعود يتشكل هتافات تفاؤل مع إشراقة كل صبح جديد من يوميات الثورة التي دونها الشيطي بعذوبة لغة حد البساطة، محققاً كبيراً من العمق ذاته الذي أفضت إليه الثورة. وقال ماذا يعني أن تثور الجماهير على نظام فاسد.

(مائة خطوة من الثورة) أهداه الشيطي (إلى شهداء ثورة 25 يناير 2011) مدوناً طعم الدم، ورائحة الغاز الذي ابتدأ يشمه يوم 25 يناير ما بين الساعة 12 و1 بعد منتصف الليل، حين كان داخل شقته في شارع قصر النيلين وصوت القنابل المسيلة للدموع يدوي بكثافة.

وحول ما إذا كانت (اليوميات) تمثل أدباً ذا قيمة؟ نجد الكاتب الذي أصدر من قبل رواية (ورود سامة لصقر) وقصص(عرائس من ورق) يقول في فصل من فصول الكتاب (أنا أصلاً لا أكتب يوميات، فكتابة اليوميات تتضمن التعامل مع مادة ملتهبة في طور التشكل، وأنا أفضل الانتظار، لظني أن الانتظار مدعاة لصفاء المادة من الشوائب، ولمزيد من التأني والفهم)، وهنا يطرح الشيطي إشكالية نقدية، لكنك باسترسالك في القراءة تجد أنه تجاوز المأزق، ذلك أنه سجل لقطات بارعة، غارقة فيما يسمى (فن التفاصيل الصغيرة) ذات البعد الإنساني والوجداني إن شئت، على نحو لقائه بذلك الستيني الذي جاء من الإسكندرية، وجلس بجواره على الرصيف وراح يحاوره حتى قال له (... لما شفت الأولاد دول وأشار إلى المتظاهرين على التلفزيون بيحاربوا عشانا قلت لو لسه يوم في حياتي لازم أعيشه بكرامة).

مع كتاب الشيطي - الذي هو بالتأكيد نموذج لعشرات إن لم تكن مئات الكتب التي دونت يوميات الثورة المصرية - يمكنك أن تستعيد تلك النشوة العارمة التي مست كل العالم وأحالت (ميدان التحرير) إلى محط أنظار العالم وساحة تعيد صنع مصر من جديد، وتحرر شهادة وفاة للسلطة الشائخة وشهادة ميلاد للجميع، طبقاً لما دون الشيطي على مدى 151 صفحة من القطع الصغير.