قلت في مقال سابق إن الاستراتيجية الغربية القائمة على جر إسرائيل نحو التسوية من خلال مكافأتها سلفا، وتعزيز قدراتها العسكرية والاقتصادية وتجنيبها المساءلة الدولية والقانونية، قد انهارت تماما. وأزال سلوك الحكومات الإسرائيلية المتعاقبة جميع الأوهام التي كانت المجموعة الدولية تبيعها للعرب والمنظمات الدولية حول دفع إسرائيل إلى سلوك أكثر إيجابية وتشجيعها على الدخول في العملية السلمية، وأبرز ما كانت تنطوي عليه سياسات الدعم والتشجيع هذه من تواطؤ ضمني مع الاحتلال، وبشكل خاص مع الحصار اللإنساني واللاقانوني الذي تفرضه تل أبيب على غزة منذ ثلاث سنوات.
وبانهيار هذه الاستراتيجية تجد الكتلة الغربية المعنية بالحفاظ على مصالح كبرى، تعتبرها حيوية في الشرق الأوسط، نفسها في فراغ كامل. وستزداد خطورة هذا الفراغ إذا قررت إسرائيل قبول التحدي وواصلت سياستها التوسعية والهجومية.
أمام هذا الفراغ الذي تجد فيه استراتيجية السلام الأمريكية نفسها، يستعيد النقاش حول مصير السلام في الشرق الأوسط، والموقف من إسرائيل وسياساتها، محوريته، بعد أن اختفى لعقود طويلة تحت غلالة البحث عن السلام، أو الأمل بإمكانية الوصول إلى تسوية إقليمية تنهي النزاع العربي الإسرائيلي وتفتح أفق الاهتمام الجدي بشؤون المجتمعات والشعوب المشرقية وبمصيرها السياسي والاقتصادي.
وليس هناك شك في أن أنصار إسرائيل وسياساتها التوسعية، وهم كثر، يتمسكون بمنهج المكافئات المسبقة لإسرائيل، ويجعلون من أي بادرة إسرائيلية صغيرة ومظهرية تنازلا استراتيجيا يستحق الإشادة والعرفان. لكن الواقع أنه لا توجد لديهم حجة أخرى للدفاع عن هذا النهج الفاشل سوى المبالغة في رمي المسؤولية في إخفاق مفاوضات السلام على انقسام الفلسطينيين، أوعلى غياب الإرادة العربية، وبشكل أكبر على حماس، واستفرادها بالسلطة في غزة، وتحالفها الوثيق مع إيران.
لكن انهيار المقاربة الغربية، التي تبنتها أيضا الرباعية الدولية في موضوع السلام في الشرق الأوسط، يشجع عددا متزايدا من الحكومات والمنظمات الإنسانية الدولية والرأي العام على التعبير دون خوف عن نفاد صبرهم من سياسات إسرائيل الرافضة لأي تسوية إقليمية، وضربها عرض الحائط بجميع التواضعات والأعراف والقوانين الدولية، ومواصلتها التوسع والاستيطان على حساب جيرانها، واستسهالها الضغط على الزناد وشن الحروب والهجمات الوحشية على القرى والمدن والتجمعات المدنية كلما بدت لقادتها ملامح ضغوط خارجية تطلب منهم تعديل موقفهم أو تلطيفه في التعامل مع قضايا الحرب والسلام والتسوية الإقليمية. ولعل تصريحات هيلين توماس الملقبة بعميدة الصحافة الأمريكية، والصحافية المفضلة في البيت الأبيض، خير مثال على نفاد هذا الصبر لدى فئات متزايدة من الرأي العام الغربي. وكانت توماس قد أعلنت على هامش حديث لها مع الحاخام دافيد نسينوف، أن حل الصراع في الشرق الأوسط سهل وبسيط ويتمثل في "عودة اليهود إلى ديارهم التي جاءوا منها في بولندا وألمانيا، وتذكروا أن هؤلاء الأشخاص محتلون". وهو ما لم يعد الكثير من العرب يفكرون فيه أو يحلمون في تحقيقه.
وليست هيلين توماس الصوت الوحيد الذي يلفت نظر المراقب السياسي في هذا المجال. فقد سبقته مواقف جريئة أيضا، وإن لم تكن بالحدة ذاتها، لمثقفين وناشطين يهود في أمريكا وأوروبا أعلنوا فيها، في إطار ما يسمى قائمة "جي ستريت" "وجي كول"، عن رفضهم سياسات إسرائيل التوسعية والعنصرية المعادية للتسوية الإقليمية. وهم في إعلانهم هذا لم يخفوا حرصهم على وجود إسرائيل، إنما أرادوا، كما تقول وثائقهم ذاتها، إنقاذها من الخطر الذي يتهددها، والذي لا يكمن كما ذكروا في أعدائها الخارجيين فحسب، وإنما في سياساتها المتطرفة ذاتها بشكل خاص.
لم تعد سياسات إسرائيل مقنعة لأحد لا في الشرق ولا في الغرب. وبعد أن نجحت في الماضي بدعم حلفائها الغربيين في دفن تقرير غولدستن، ها هي تعمل المستحيل دون فائدة من أجل قطع الطريق على تشكيل وفد تحقيق دولي في الهجوم على سفن أسطول الحرية ومقتل تسعة مواطنين أتراك فيه. ولا يزال الأمين العام للأمم المتحدة، بالرغم من جميع الضغوط التي مارستها، وبالرغم من إعلان تل أبيب قبولها بإدراج أعضاء غير إسرائيليين في لجنة تحقيقها الخاصة، يرفض التخلي عن مشروعه ويتمسك بفكرة التحقيق الدولي.
وعلى هامش هذا الإخفاق وتراجع صدقية السياسة الإسرائيلية نشهد انتعاش حركة التضامن مع الشعب الفلسطيني في العالم أجمع، وفي الغرب خاصة، كما يدل على ذلك الحماس لإرسال سفن الإغاثة، أو بالأحرى أساطيل كسر الحصار، الذي اضطر حكومة نتنياهو إلى الإعلان عن سياسة جديدة مخادعة توهم بتخفيف الحظر على الاستيراد، وتقصره على المواد العسكرية أو الاستراتيجية، لامتصاص نقمة الرأي العام الدولي ومواجهة أساطيل الحرية الرامية إلى كسر الحصار.
وأكثر فأكثر تظهر سياسات تل أبيب المتمحورة حول تمديد الاحتلال وتوسيع دائرة الاستيطان بهدف هضم الأراضي الفلسطينية والعربية، وتهديد وجود الشعب الفلسطيني، على أنها سياسات غير منتجة ولا إنسانية في نظر قطاعات متزايدة من الرأي العام الغربي والعالمي. وربما لم تكن جريمة الهجوم على أسطول الحرية، الشهر الماضي، سوى القشة التي قصمت ظهر البعير. فقد قدمت للرأي العام الذي خدرته الدعاية الإسرائيلية خلال عقود طويلة مثالا حيا لسلوك الجنود الإسرائيليين العنصري، ولمنهج عمل القيادة السياسية الإسرائيلية، أي ما يتميزان به من استهتار لا نظير له بالأرواح الإنسانية ومن تساهل لا حدود له بالأعراف والتقاليد والقوانين الدولية ، ومن نرجسية مفرطة تعمي أصحابها عن رؤية أي شيء آخر سوى أهدافهم الخاصة. وكان من الطبيعي أن تكون النتيجة برم العالم أجمع من وضع إسرائيل نفسها فوق القانون، وسعيها الدائم لانتزاع اعتراف جميع الأطراف بها كدولة متميزة لا تخضع في سلوكها لأي قاعدة سوى الدفاع المحموم عما تسميه مصالحها القومية، أي في الحقيقة عن أطماعها الاستيطانية التوسعية. لقد أصبح من الواضح للجميع أن الاستمرار في سياسة المكافأة المجانية لإسرائيل هو تواطؤ معها ومشاركة في جريمة الاحتلال والاستعمار الاستيطاني الذي يشكل اليوم محور السياسة الإسرائيلية وهدفها الوحيد.