تقول حكمة صينية إن الامبراطور وضع صخرة في الطريق وأمر أحد معاونيه أن يختبئ خلف شجرة ليسجل ملاحظاته حول تصرفات الناس تجاه هذه الصخرة. خلال يومين مر العديد من الناس من مختلف الثقافات والطبقات، الغني والفقير والمسؤول والتاجر والشاب والكبير، وكل منهم كان له موقفه الخاص الذي يصب في باب التذمر من الصخرة وانتقاد وضع الصخرة، والتهديد بتقديم شكوى ضده إلى المسؤولين، ثم يلتف من حولها ويكمل سيره. في آخر اليوم الثاني مر فلاح فقير ولم تعجبه الصخرة مثله مثل الآخرين ولكنه عوضا عن أن ينتقد الوضع ويتوقف عند حد الكلام فقط، حاول أن يحركها من مكانها فلم يستطع ثم استدعى من يعينه حتى نحاها جانبا. وعندما عاد إلى مكان الصخرة ليغلق الحفرة التي تركتها وجد كنزا وخطابا من الإمبراطور مكتوب فيه "إن هذا الكنز هدية لمن اجتهد وأزاح الصخرة عن طريق الناس".
كل الفرق بين الفلاح وغيره ممن مر على الصخرة هو أنه لم يتوقف عند استخدام السبابة الشهيرة فقط، وألقى باللوم على غيره، بل قام بما يفرضه عليه حس المواطنة والانتماء للمكان وأزاح الصخرة عن الطريق.
أتصور أن هذا ما ينقصنا هنا، فنحن بحكم عروبتنا فصيحو اللسان جدا ونجيد "السلق" بألسنة حداد، ونتقن فن البحث والتحري عن أخطاء الغير، وفي ذات الوقت نجيد تبرير أخطائنا وإلقاء اللوم على الآخرين واعتبار ما نفعل مما "لم يأت به الأوائل"، وبالتالي فإننا متحفزون جدا للرد على المنتقد بـ"سلق" أشد من "سلقه"، وهكذا تضيع جهودنا وأوقاتنا سدا في "الانتقاد" و"الرد على الانتقاد" و "الرد على الرد"، لنبقى مكاننا بجانب الصخرة وتبقى الصخرة مكانها ويندثر الكنز الذي وضعه الإمبراطور.
إننا نحتاج (ولا أستثني نفسي) لأن نتعلم الفرق بين "النقد" و"الانتقاد"؛ هذا الأخير مليء بالتصورات الشخصية مشحون بالعواطف والانتماءات لا يقدم حلا ولا يعالج خللا! بينما النقد يقدم البديل أو يؤيد القائم. النقد مدعاة للتطور والتقدم، لأن نقدك إياي يريني العثرات في طريقي ويزيح الغشاوة عن عيني مما يعينني أن أتطور. النقد يعلمني أن أزيل الصخرة والانتقاد يعلمني أن أنتظر من يأتي ليزيح الصخرة. النقد يعني أن نكون في دائرة الفعل والانتقاد يعني أن نبقى كالنائحة المستأجرة بلا فعل ولا حتى ردة فعل.
للأسف.. إن كثيرا مما نراه على الساحة اليوم هو من باب الانتقاد الشخصي لا النقد الموضوعي، نركز من خلاله على البدء بتصنيف الأشخاص ووضعهم في قالب فكري معين، ثم نبدأ في الهجوم عليهم مركزين على هذا التصنيف الذي قد لا يكون صحيحا ابتداء، ومن ذلك ما نراه في ساحات التواصل الإلكتروني اليوم من اتهامات يرمى بها كثير من الناس لمجرد التعبير عن الرأي بشكل أو بآخر، ومنهم أسماء معروفة حملت لواء الدعوة والتطوير والتواصل مع الأجيال أكثر من غيرها، نجدهم للأسف بسبب صدق مواقفهم وتعبيرهم عن آرائهم يوصمون بتصنيفات، ثم تجد سيلا من الاتهامات ذات الطابع الشخصي التي لا تمت إلى الحقيقة بصلة.
ومن أسوأ الاتهامات وأردأها تلك التي تنسب الإنسان إلى التلون وعدم الثبات فقط لأنه تبنى رأيا يخالف رأيا قديما له، أو لأنه تبنى توجها لا يتسق مع توجه التيار الذي ينسب إليه. فأحدهم يسائل أحد الدعاة الناشطين من خلال مقال منشور أين ذهبت لحيته، فقط لأنه هذبها قليلا، والآخر يتهم ذات الشيخ بأنه "ليبرالي إخونجي شيعي" فقط لأنه تعايش مع الأنماط المختلفة والمتباينة من المجتمع دون أن يمارس الإقصائية الفكرية التي اعتاد عليها أمثال صاحب التعليق. خوفنا من النمط الفكري المخالف أو السياق الفكري المتجدد أو عدم اتفاقنا مع أصحابه، لا يمكن بحال أن يسمح لنا بالتجريح الشخصي والإساءة العلنية، لأننا حينها سنكون منتقدين فقط، ولكي نكون ناقدين للفكر لا للأشخاص فغاية ما لدينا هو أن نتناول فكرهم بالتحليل مع عرض الفكر المقابل.
إن محاولة عزل الفكر الجيد من خلال القولبة والتصنيف الاتهامي والانتقاد غير الموضوعي، إنما هو حيلة العاجز الذي يرى أن فكره ليس بذات القوة والمتانة، والمنهج الألزم لنا في هذا الباب هو أن ننظر للكلام أو الفعل بشكل موضوعي مفصولا عن مصدره مستلهمين ذلك من كتاب ربنا "قل إن كان للرحمن ولد فأنا أول العابدين" و "وإنا أو إياكم لعلى هدى أو في ضلال مبين" ومن قول رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي قال لأبي هريرة في قصته مع الشيطان حين "زعم أنه يعلمه كلمات ينفعه الله بها"، إذ قال الرسول عليه الصلاة والسلام "صدقك وهو كذوب"، ولم ينف الصدق عن الشيطان في هذه المعلومة رغم أنه "كذوب".
إن الانتقاد الشخصي لن يطور المجتمع وسيبقينا مكاننا نلعن الصخرة ومن وضعها ولكنه لن يحركها قيد أنملة، ولهذا أظننا بحاجة لإعادة الصياغة لمنهجنا النقدي بحيث نتلافى شخصنة المواضيع وتجيير النزاع لصالح جهة أو موقف معين بدلا من قصد المصلحة.
تغريدة: إن أردت أن تنافس المصابيح فكن فجرا مشرقا.